فصل: الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة: (فِي مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***


فَصْلٌ ‏[‏تَصْوِيرُ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ‏]‏

إِذَا تَقَرَّرَ تَصْوِيرُ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ فَقَدْ يُطْلَبُ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا، وَالْأَمْرُ فِيهَا وَاضِحٌ مَعَ تَأَمُّلِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ التَّقْرِيرِ، بَلْ هِيَ فِي اعْتِبَارِ الشَّرِيعَةِ بَالِغَةٌ مَبْلَغَ الْقَطْعِ لِمَنِ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا، وَلَكِنْ إِنْ طَلَبَ مَزِيدًا فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ، فَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جُمَلٌ، مِنْهَا‏:‏ مَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي التَّجْرِيحِ بِمَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَا يُجَرَّحُ بِهِ لَوْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْلَا أَنَّ لِلْمُدَاوَمَةِ تَأْثِيرًا، لَمْ يَصِحَّ لَهُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُدَاوَمِ عَلَيْهِ، وَمَا لَمْ يُدَاوَمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، لَكِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ، وَأَنَّ الْمُدَاوَمَ عَلَيْهِ أَشَدُّ، وَأَحْرَى مِنْهُ إِذَا لَمْ يُدَاوَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرَهُ فِي الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ لِمَنِ اعْتَبَرَهُ كَافٍ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ الشَّرِيعَةَ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ بِاتِّفَاقٍ، وَتَقَرَّرَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ هِيَ الْكُلِّيَّاتُ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ؛ إِذْ مَجَارِي الْعَادَاتِ كَذَلِكَ جَرَتِ الْأَحْكَامُ فِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ أَضْعَفُ شَأْنًا فِي الِاعْتِبَارِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، بَلْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَجْرِ الْكُلِّيَّاتُ عَلَى حُكْمِ الِاطِّرَادِ كَالْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ، وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ وُقُوعِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْآحَادِ، لَكِنِ الْغَالِبُ الصِّدْقُ، فَأُجْرِيَتِ الْأَحْكَامُ الْكُلِّيَّةُ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ حِفْظًا عَلَى الْكُلِّيَّاتِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْجُزْئِيَّاتُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَلَامْتَنَعَ الْحُكْمُ إِلَّا بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَاطُّرِحَ الظَّنُّ بِإِطْلَاقٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛، بَلْ حُكِمَ بِمُقْتَضَى ظَنِّ الصِّدْقِ؛ وَإِنْ بَرَزَ بَعْدُ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ الْغَلَطُ فِي ذَلِكَ الظَّنِّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا اطِّرَاحٌ لِحُكْمِ الْجُزْئِيَّةِ فِي حُكْمِ الْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ اخْتِلَافِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَأَنَّ شَأْنَ الْجُزْئِيَّةِ أَخَفُّ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ مَا جَاءَ فِي الْحَذَرِ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، ‏[‏فَإِنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ‏]‏ فِي عِلْمِهِ أَوْ عَمَلِهِ،- إِذَا لَمْ تَتَعَدَّ لِغَيْرِهِ- فِي حُكْمِ زَلَّةِ غَيْرِ الْعَالِمِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنْ تَعَدَّتْ إِلَى غَيْرِهِ اخْتَلَفَ حُكْمُهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِكَوْنِهَا جُزْئِيَّةً إِذَا اخْتَصَّتْ بِهِ، وَلَمْ تَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِ؛ فَإِنْ تَعَدَّتْ صَارَتْ كُلِّيَّةً بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ عَلَى مُقْتَضَى الْقَوْلِ؛ فَصَارَتْ عِنْدَ الِاتِّبَاعِ عَظِيمَةً جِدًّا، وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ عَلَى فَرْضِ اخْتِصَاصِهَا بِهِ، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ كُلُّ مَنْ عَلِمَ عَمَلًا فَاقْتَدَى بِهِ فِيهِ؛ إِنْ صَالِحًا فَصَالِحٌ، وَإِنْ طَالِحًا فَطَالِحٌ، وَفِيهِ جَاءَ‏:‏ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً»، وَ«إِنَّ نَفْسًا لَا تُقْتَلُ ظُلْمًا؛ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»، وَقَدْ عُدَّتْ سَيِّئَةُ الْعَالِمِ كَبِيرَةً لِهَذَا السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا صَغِيرَةً، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَبْلُغُ الْقَطْعَ عَلَى كَثْرَتِهَا، وَهِيَ تُوَضِّحُ مَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ الْأَفْعَالِ تُعْتَبَرُ بِحَسَبِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ‏.‏

الْمسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ ‏[‏اخْتِلَافُ الْمُبَاحِ‏]‏

الْمُبَاحُ يُطْلَقُ بِإِطْلَاقَيْن‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ‏.‏

وَالْآخَرُ مِنْ حَيْثُ يُقَالُ‏:‏ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ‏:‏ الْمُبَاحُ

أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِأَمْرٍ مَطْلُوبِ الْفِعْلِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِأَمْرٍ مَطْلُوبِ التَّرْكِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِمُخَيَّرٍ فِيهِ‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِالْجُزْءِ، الْمَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ، وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِالْجُزْءِ الْمَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْكُلِّ، بِمَعْنَى أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فَرَاجِعَانِ إِلَى هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي‏.‏

وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ؛ أَنَّ الْمُبَاحَ- كَمَا مَرَّ- يَعْتَبَرُ بِمَا يَكُونُ خَادِمًا لَهُ إِنْ كَانَ خَادِمًا، وَالْخِدْمَةُ هُنَا قَدْ تَكُونُ فِي طَرَفِ التَّرْكِ؛ كَتَرْكِ الدَّوَامِ عَلَى التَّنَزُّهِ فِي الْبَسَاتِينِ، وَسَمَاعِ تَغْرِيدِ الْحَمَامِ، وَالْغِنَاءِ الْمُبَاحِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي طَرَفِ الْفِعْلِ؛ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَلَالِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ؛ فَإِنَّ الدَّوَامَ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ- مَطْلُوبٌ، مِنْ حَيْثُ هُوَ خَادِمٌ لِمَطْلُوبٍ، وَهُوَ أَصْلُ الضَّرُورِيَّاتِ بِخِلَافِ الْمَطْلُوبِ التَّرْكِ؛ فَإِنَّهُ خَادِمٌ لِمَا يُضَادُّهَا، وَهُوَ الْفَرَاغُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهَا، وَالْخَادِمُ لِلْمُخَيَّرِ فِيهِ عَلَى حُكْمِهِ‏.‏

وَأَمَّا الرَّابِعُ‏:‏ فَلَمَّا كَانَ غَيْرَ خَادِمٍ لِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ كَانَ عَبَثًا أَوْ كَالْعَبَثِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ ‏[‏أَيْضًا‏]‏؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَادِمًا لِقَطْعِ الزَّمَانِ فِي غَيْرِ مُصْلِحَةِ دِينٍ وَلَا دُنْيَا، فَهُوَ إِذًا خَادِمٌ ‏[‏لِمَطْلُوبِ التَّرْكِ فَصَارَ مَطْلُوبَ‏]‏ التَّرْكِ بِالْكُلِّ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِثْلُهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ خَادِمٌ لَهُ؛ فَصَارَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ أَيْضًا‏.‏

وَتُلَخَّصُ أَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بِإِطْلَاقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَاحٌ بِالْجُزْءِ خَاصَّةً، وَأَمَّا بِالْكُلِّ؛ فَهُوَ إِمَّا مَطْلُوبُ الْفِعْلِ أَوْ مَطْلُوبُ التَّرْكِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ أَفَلَا يَكُونُ هَذَا التَّقْرِيرُ نَقْضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُبَاحَ هُوَ الْمُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ‏؟‏

فَالْجَوَابُ أَنْ لَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ، وَهَذَا النَّظَرُ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهُ بِالْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي سُمِّيَ هُنَا الْمُبَاحَ بِالْجُزْءِ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ؛ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَطْلُوبِ بِالْكُلِّ، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ الْحَسَنَ مَثَلًا مُبَاحُ اللُّبْسِ، قَدِ اسْتَوَى فِي نَظَرِ الشَّرْعِ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ؛ فَلَا قَصْدَ لَهُ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا مَعْقُولٌ وَاقِعٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمُقْتَصَرِ بِهِ عَلَى ذَاتِ الْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ؛، وَهُوَ- مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ وِقَايَةٌ لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَمُوَارٍ لِلسَّوْأَةِ، وَجَمَالٌ فِي النَّظَرِ- مَطْلُوبُ الْفِعْلِ، وَهَذَا النَّظَرُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ، وَلَا بِهَذَا الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَهُوَ نَظَرٌ بِالْكُلِّ لَا بِالْجُزْءِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏الْمُبَاحُ إِذَا أُطْلِقَ‏]‏

إِذَا قِيلَ فِي الْمُبَاح‏:‏ إِنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ- وَذَلِكَ فِي أَحَدِ الْإِطْلَاقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ-؛ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؛ لِوُجُوهٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّا إِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا بَعْدَ فَهْمِنَا مِنَ الشَّرِيعَةِ الْقَصْدَ إِلَى التَّفْرِقَةِ؛ فَالْقِسْمُ الْمَطْلُوبُ الْفِعْلِ بِالْكُلِّ هُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 223‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 35‏]‏‏.‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وَالْآيَةُ الْأُخْرَى فِي مَعْنَاهَا؛ فَهَذَا تَخْيِيرٌ حَقِيقَةً‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَالْأَمْرُ فِي الْمُطْلَقَاتِ- إِذَا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ- يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ حَقِيقَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْجُمْعَة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

‏{‏كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 160‏]‏‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ إِطْلَاقَهُ- مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ- وَاضِحٌ فِي التَّخْيِيرِ فِي تِلْكَ الْوُجُوهِ إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَطْلُوبُ التَّرْكِ بِالْكُلِّ فَلَا نَعْلَمُ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ التَّخْيِيرِ فِيهِ نَصًّا، بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ أَوْ مُشَارٌ إِلَى بَعْضِهِ بِعِبَارَةٍ تُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ التَّخْيِيرِ الصَّرِيحِ؛ كَتَسْمِيَةِ الدُّنْيَا لَعِبًا وَلَهْوًا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِمَنْ رَكَنَ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ اللَّهْوَ غَيْرُ مُخَيَّرٍ فِيهِ، وَجَاءَ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الْجُمْعَة‏:‏ 11‏]‏، وَهُوَ الطَّبْلُ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ‏}‏ ‏[‏لُقْمَانَ‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَة‏:‏ حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ- حِينَ مَلُّوا مَلَّةً-؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ»‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَا تَجْتَمِعُ مَعَ التَّخْيِيرِ فِي الْغَالِبِ فَإِذَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ بَعْضُ هَذِهِ الْأُمُورِ مُقَدَّرَةً، أَوْ كَانَ فِيهَا بَعْضُ الْفُسْحَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَوْ بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَمَعْنَى نَفْيِ الْحَرَجِ عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ، «وَمَا سُكِتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ» أَيْ مِمَّا عَفِيَ عَنْهُ، وَهَذَا إِنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِ فِي الْعَادَةِ، إِشْعَارًا بِأَنَّ فِيهِ مَا يُعْفَى عَنْهُ، أَوْ مَا هُوَ مَظِنَّةٌ عَنْهُ، أَوْ هُوَ مَظِنَّةٌ لِذَلِكَ فِيمَا تَجْرِي بِهِ الْعَادَاتُ‏.‏

وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاحِدَ صَرِيحٌ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْجُنَاحِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَلْزَمُهُ الْإِذْنُ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ إِنْ قِيلَ بِهِ، إِلَّا أَنْ قَصْدَ اللَّفْظِ فِيهِ نَفْيُ الْإِثْمِ خَاصَّةً، وَأَمَّا الْإِذْنُ فَمِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ أَوْ مِنْ بَابِ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ أَمْ لَا، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ أَمْ لَا، وَالْآخَرُ صَرِيحٌ فِي نَفْسِ التَّخْيِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَلْزَمُهُ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ؛ فَقَصْدُ اللَّفْظِ فِيهِ التَّخْيِيرُ خَاصَّةً، وَأَمَّا رَفْعُ الْحَرَجِ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ قَدْ يَكُونُ مَعَ الْوَاجِبِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْمَنْدُوبِ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 106‏]‏‏.‏

فَلَوْ كَانَ رَفْعٌ لِلْجُنَاحِ يَسْتَلْزِمُ التَّخْيِيرَ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؛ لَمْ يَصِحَّ مَعَ الْوَاجِبِ، وَلَا مَعَ مُخَالَفَةِ الْمَنْدُوبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّخْيِيرُ الْمُصَرَّحُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ كَوْنِ الْفِعْلِ وَاجِبًا دُونَ التَّرْكِ، وَلَا مَنْدُوبًا، ‏[‏وَبِالْعَكْسِ‏]‏‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ لَفْظَ التَّخْيِيرِ مَفْهُومٌ مِنْهُ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى تَقْرِيرِ الْإِذْنِ فِي طَرَفَيِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَأَنَّهُمَا عَلَى سَوَاءٍ فِي قَصْدِهِ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَأَمَّا لَفْظُ رَفْعِ الْجُنَاحِ؛ فَمَفْهُومُهُ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ إِنْ وَقَعَ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وَبَقِيَ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لَهُ، لَكِنْ بِالْقَصْدِ الثَّانِي كَمَا فِي الرُّخَصِ؛ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي أَحَدِهِمَا مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الْآخَرِ، وَبِالْعَكْسِ، فَلِذَلِكَ إِذَا قَالَ الشَّارِعُ فِي أَمْرٍ وَاقِعٍ لَا حَرَجَ فِيهِ، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ؛ وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا؛ فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ بَعْدَ الْوُقُوعِ لَا حَرَجَ فِيهِ؛ فَلْيُتَفَقَّدْ هَذَا فِي الْأَدِلَّةِ‏.‏

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ‏:‏ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ غَيْرُ مُخَيَّرٍ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَنَّ الْمُخَيَّرَ فِيهِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْخَادِمُ لِلْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ، صَارَ خَارِجًا عَنْ مَحْضِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، بَلِ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِيهِ مُقَيَّدٌ، وَتَابِعٌ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، فَصَارَ الدَّاخِلُ فِيهِ دَاخِلًا تَحْتَ الطَّلَبِ بِالْكُلِّ، فَلَمْ يَقَعِ التَّخْيِيرُ فِيهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْجُزْءُ، وَلَمَّا كَانَ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ وَقَعَ تَحْتَ الْخَارِجِ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ عَرَفْنَا اعْتِنَاءَ الشَّارِعِ بِالْكُلِّيَّاتِ، وَالْقَصْدَ إِلَيْهَا فِي التَّكَالِيفِ؛ فَالْجُزْئِيُّ الَّذِي لَا يَخْرِمُهُ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَا هُوَ مُضَادٌّ لَهُ، بَلْ هُوَ مُؤَكِّدٌ لَهُ؛ فَاتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْمُخَيَّرِ فِيهِ تَأْكِيدٌ لِاتِّبَاعِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ الْكُلِّيِّ، فَلَا ضَرَرَ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى هُنَا؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا اتِّبَاعُ الْهَوَى فِيهِ خَادِمٌ لَهُ‏.‏

وَأَمَّا قِسْمُ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ؛ فَيَكَادُ يَكُونُ شَبِيهًا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى الْمَذْمُومِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَالْمُضَادِّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِي طَلَبِ النَّهْيِ الْكُلِّيِّ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُ لِقِلَّتِهِ وَعَدَمِ دَوَامِهِ، وَمُشَارَكَتِهِ لِلْخَادِمِ الْمَطْلُوبِ الْفِعْلِ بِالْعَرَضِ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ؛ لَمْ يُحْفَلْ بِهِ، فَدَخَلَ تَحْتَ الْمَرْفُوعِ الْحَرَجِ؛ إِذِ الْجُزْئِيُّ مِنْهُ لَا يَخْرِمُ أَصْلًا مَطْلُوبًا، وَإِنْ كَانَ فَتْحًا لِبَابِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ، حَتَّى يَجْتَمِعَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَالِاجْتِمَاعُ مُقَوٍّ، وَمِنْ هُنَالِكَ يَلْتَئِمُ الْكُلِّيُّ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُضَادُّ لِلْمَطْلُوبِ فِعْلِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَاتِّبَاعِ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ تَحْتَ كُلِّيِّ أَمْرٍ، اقْتَضَتِ الضَّوَابِطُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهِ؛ فَتَصْرِيحٌ بِمَا تَقَدَّمَ فِي قَاعِدَةِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَأَنَّهُ مُضَادٌّ لِلشَّرِيعَةِ، ‏[‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ‏]‏‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ ‏[‏وَصْفُ الْمُبَاحِ‏]‏

إِنَّ الْمُبَاحَ إِنَّمَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُبَاحًا إِذَا اعْتُبِرَ فِيهِ حَظُّ الْمُكَلَّفِ فَقَطُّ؛ فَإِنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ الْقَصْدِ كَانَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُبَاحَ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ‏:‏ مَا خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، بِحَيْثُ لَا يُقْصَدُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ إِقْدَامٌ وَلَا إِحْجَامٌ، فَهُوَ إِذًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي التَّرْكِ، وَلَا حَاجِيٌّ، وَلَا تَكْمِيلِيٌّ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى نَيْلِ حَظٍّ عَاجِلٍ خَاصَّةً، وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ الَّذِي يُقَالُ‏:‏ لَا حَرَجَ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْحَظِّ، وَأَيْضًا؛ فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ رَاجِعَانِ إِلَى حِفْظِ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ أَوْ حَاجِيٌّ أَوْ تَكْمِيلِيٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَدْ فُهِمَ مِنَ الشَّارِعِ قَصْدُهُ إِلَيْهِ، فَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُجَرَّدُ نَيْلِ حَظٍّ، وَقَضَاءِ وَطَرٍ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى انْحِصَارِ الْأَمْرِ فِي الْمُبَاحِ فِي حَظِّ الْمُكَلَّفِ لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ رَاجِعَانِ إِلَى حَقِّ اللَّهِ لَا إِلَى حَظِّ الْمُكَلَّفِ‏؟‏، وَلَعَلَّ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ يَصِحُّ فِيهِ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ، كَمَا صَحَّ فِي بَعْضِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ أَنَّ الشَّرَائِعَ إِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ؛ فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالتَّخْيِيرُ جَمِيعًا رَاجِعَةٌ إِلَى حَظِّ الْمُكَلَّفِ وَمَصَالِحِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْحُظُوظِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَغْرَاضِ؛ غَيْرَ أَنَّ الْحَظَّ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ دَاخِلٌ تَحْتَ الطَّلَبِ، فَلِلْعَبْدِ أَخْذُهُ مِنْ جِهَةِ الطَّلَبِ، فَلَا يَكُونُ سَاعِيًا فِي حَظِّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَفُوتُهُ حَظُّهُ، لَكِنَّهُ آخِذٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الطَّلَبِ لَا مِنْ حَيْثُ بَاعِثُ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ بَرِيئًا مِنَ الْحَظِّ، وَقَدْ يَأْخُذُهُ مِنْ حَيْثُ الْحَظُّ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الطَّلَبِ، فَطَلَبَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ- صَارَ حَظُّهُ تَابِعًا لِلطَّلَبِ، فَلَحِقَ بِمَا قَبْلَهُ فِي التَّجَرُّدِ عَنِ الْحَظِّ، وَسُمِّيَ بِاسْمِهِ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الطَّلَبِ؛ فَلَا يَكُونُ آخِذًا لَهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ إِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ بِالْفَرْضِ، فَهُوَ قَدْ أَخَذَهُ إِذًا مِنْ جِهَةِ حَظِّهِ، فَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْمُبَاح‏:‏ إِنَّهُ الْعَمَلُ الْمَأْذُونُ فِيهِ، الْمَقْصُودُ بِهِ مُجَرَّدُ الْحَظِّ الدُّنْيَوِيِّ خَاصَّةً‏.‏

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة‏:‏ ‏[‏الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكُ بِالْمَقَاصِدِ‏]‏

الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، وَالتُّرُوكُ بِالْمَقَاصِدِ، فَإِذَا عَرِيَتْ عَنِ الْمَقَاصِدِ؛ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ مِنْهَا‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ لَا تَقْصُرُ عَنْ مَبْلَغِ الْقَطْعِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَعْمَالِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَحْسُوسَةٌ فَقَطُّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا عَلَى حَالٍ؛ إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ خَاصَّةً، أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَالْقَاعِدَةُ مُسْتَمِرَّةٌ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً حَتَّى تَقْتَرِنَ بِهَا الْمَقَاصِدُ؛ كَانَ مَجَرَّدُهَا فِي الشَّرْعِ بِمَثَابَةِ حَرَكَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ، وَالْجَمَادَاتِ، وَالْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا عَقْلًا، وَلَا سَمْعًا، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلَهَا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا ثَبَتَ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمَجْنُونِ، وَالنَّائِمِ، وَالصَّبِيِّ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا لَا حُكْمَ لَهَا فِي الشَّرْعِ بِأَنْ يُقَالَ فِيهَا‏:‏ جَائِزٌ أَوْ مَمْنُوعٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ كَمَا لَا اعْتِبَارَ بِهَا مِنَ الْبَهَائِمِ‏.‏

وَفِي الْقُرْآنِ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

قَالَ‏:‏ قَدْ فَعَلْتُ‏.‏

وَفِي مَعْنَاهُ رُوِيَ الْحَدِيثُ‏:‏ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدًا؛ فَمَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا‏:‏ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» فَذَكَرَ «الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ حَتَّى يُفِيقَ»؛ فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ لَا قَصْدَ لَهُمْ، وَهِيَ الْعِلَّةُ فِي رَفْعِ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَتَكْلِيفُ مَنْ لَا قَصْدَ لَهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا فِي الطَّلَبِ، وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَلَا تَكْلِيفَ فِيهِ، قِيلَ‏:‏ مَتَى صَحَّ تَعَلُّقُ التَّخْيِيرِ، صَحَّ تَعَلُّقُ الطَّلَبِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْمُخَيَّرِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ غَيْرَ قَاصِدٍ، هَذَا خُلْفٌ‏.‏

وَلَا يُعْتَرَضُ هَذَا بِتَعَلُّقِ الْغَرَامَاتِ وَالزَّكَاةِ بِالْأَطْفَالِ، وَالْمَجَانِينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَكَلَامُنَا فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَلَا بِالسَّكْرَانِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 43‏]‏؛ فَإِنَّهُ قَدْ أُجِيبَ عَنْهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلِأَنَّهُ فِي عُقُودِهِ وَبُيُوعِهِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَمَا حُجِرَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَفِي سِوَاهُمَا، لَمَّا أَدْخَلَ السُّكْرَ عَلَى نَفْسِهِ؛ كَانَ كَالْقَاصِدِ لِرَفْعِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ؛ فَعُومِلَ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ، أَوْ لِأَنَّ الشُّرْبَ سَبَبٌ لِمَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ، فَصَارَ اسْتِعْمَالُهُ لَهُ تَسَبُّبًا فِي تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، فَيُؤَاخِذُهُ الشَّرْعُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهَا كَمَا وَقَعَتْ مُؤَاخَذَةُ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ بِكُلِّ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا، وَكَمَا يُؤَاخَذُ الزَّانِي بِمُقْتَضَى الْمَفْسَدَةِ فِي اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ غَيْرُ الْإِيلَاجِ الْمُحَرَّمِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، فَالْأَصْلُ صَحِيحٌ، وَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَارِدٍ‏.‏

الْمَسْأَلَة السَّابِعَة‏:‏ ‏[‏الْمَنْدُوبُ بِاعْتِبَارِهِ أَعَمَّ خَادِمٌ لِلْوَاجِبِ‏]‏

الْمَنْدُوبُ إِذَا اعْتَبَرْتَهُ اعْتِبَارًا أَعَمَّ مِنَ الِاعْتِبَارِ الْمُتَقَدِّمِ، وَجَدْتَهُ خَادِمًا لِلْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا مُقَدِّمَةٌ لَهُ، أَوْ تَكْمِيلٌ لَهُ، أَوْ تِذْكَارٌ بِهِ، كَانَ مِنْ جِنْسِ الْوَاجِبِ أَوَّلًا‏.‏

فَالَّذِي مِنْ جِنْسِهِ كَنَوَافِلِ الصَّلَوَاتِ مَعَ فَرَائِضِهَا، وَنَوَافِلِ الصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ فَرَائِضِهَا، وَالَّذِي مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَطَهَارَةِ الْخَبَثِ فِي الْجَسَدِ، وَالثَّوْبِ، وَالْمُصَلَّى، وَالسِّوَاكِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ الصَّلَاةِ، وَكَتَعْجِيلِ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ، وَكَفِّ اللِّسَانِ عَمَّا لَا يَعْنِي مَعَ الصِّيَامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ لَاحِقٌ بِقِسْمِ الْوَاجِبِ بِالْكُلِّ، وَقَلَّمَا يَشِذُّ عَنْهُ مَنْدُوبٌ يَكُونُ مَنْدُوبًا بِالْكُلِّ وَالْجُزْءِ، وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرًا، وَلَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مُغْنٍ عَنْهُ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْمَكْرُوهُ بِاعْتِبَارِهِ أَعَمَّ خَادِمٌ لِلْحَرَامِ‏]‏

الْمَكْرُوهُ إِذَا اعْتَبَرْتَهُ كَذَلِكَ مَعَ الْمَمْنُوعِ، كَانَ كَالْمَنْدُوبِ مَعَ الْوَاجِبِ، وَبَعْضُ الْوَاجِبَاتِ مِنْهُ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا، وَهُوَ أَعْظَمُهَا، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً وَخَادِمًا لِلْمَقْصُودِ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالْأَذَانِ لِلتَّعْرِيفِ بِالْأَوْقَاتِ، وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ مَعَ الصَّلَاةِ، فَمِنْ حَيْثُ كَانَ وَسِيلَةً حُكْمُهُ مَعَ الْمَقْصُودِ حُكْمُ الْمَنْدُوبِ مَعَ الْوَاجِبِ، يَكُونُ وُجُوبُهُ بِالْجُزْءِ دُونَ وُجُوبِهِ بِالْكُلِّ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمَمْنُوعَاتِ؛ مِنْهُ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً لَهُ، كَالْوَاجِبِ حَرْفًا بِحَرْفٍ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ‏.‏

الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة‏:‏ ‏[‏مَا حَدَّ لَهُ الشَّارِعُ وَقْتًا مَحْدُودًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمَنْدُوبَات‏]‏

مَا حَدَّ لَهُ الشَّارِعُ وَقْتًا مَحْدُودًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمَنْدُوبَاتِ فَإِيقَاعُهُ فِي وَقْتِهِ لَا تَقْصِيرَ فِيهِ شَرْعًا، وَلَا عَتْبَ، وَلَا ذَمَّ، وَإِنَّمَا الْعَتْبُ وَالذَّمُّ فِي إِخْرَاجِهِ عَنْ وَقْتِهِ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا أَوْ مُوَسَّعًا لِأَمْرَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ حَدَّ الْوَقْتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى قَصَدَهُ الشَّارِعُ أَوْ لِغَيْرِ مَعْنًى، وَبَاطِلٌ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مَعْنًى، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ أَنْ يُوقَعَ الْفِعْلُ فِيهِ، فَإِذَا وَقَعَ فِيهِ فَذَلِكَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ ذَلِكَ التَّوْقِيتِ، وَهُوَ يَقْتَضِي قَطْعًا مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ عَتْبٌ أَوْ ذَمٌّ، لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ لِمُخَالَفَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي إِيقَاعِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَتْبُ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مُوَافِقًا، هَذَا خُلْفٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْعَتْبُ لَيْسَ مِنَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، لِأَنَّا قَدْ فَرَضْنَا الْوَقْتَ الْمُعَيَّنَ مُخَيَّرًا فِي أَجْزَائِهِ إِنْ كَانَ مُوَسَّعًا، وَالْعَتْبُ مَعَ التَّخْيِيرِ مُتَنَافِيَانِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ، هَذَا خُلْفٌ مُحَالٌ، وَظُهُورُ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى دَلِيلٍ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَدْ ثَبَتَ أَصْلُ طَلَبِ الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَالْمُسَابَقَةِ إِلَيْهَا، وَهُوَ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ السَّبْقُ إِلَى الْخَيْرَاتِ مَطْلُوبًا بِلَا بُدٍّ؛ فَالْمُقَصِّرُ عَنْهُ مَعْدُودٌ فِي الْمُقَصِّرِينَ، وَالْمُفَرِّطِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ كَانَ هَكَذَا؛ فَالتَّعَبُ لَاحِقٌ بِهِ فِي تَفْرِيطِهِ وَتَقْصِيرِهِ، فَكَيْفَ يُقَالُ‏:‏ لَا عَتْبَ عَلَيْهِ‏؟‏

وَيَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» قَالَ‏:‏ رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ؛ فَإِنَّ رِضْوَانَهُ لِلْمُحْسِنِينَ، وَعَفْوَهُ عَنِ الْمُقَصِّرِينَ‏.‏

وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا؛ فَقَدْ قَالَ فِي الْمُسَافِرِينَ يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لِسِنِّهِ يُصَلِّي بِهِمْ فَيُسْفِرُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَ‏:‏ «يُصَلِّي الرَّجُلُ وَحْدَهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْإِسْفَارِ فِي جَمَاعَةٍ» فَقَدَّمَ كَمَا تَرَى حُكْمَ الْمُسَابَقَةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْجَمَاعَةَ الَّتِي هِيَ سُنَّةٌ يُعَدُّ مَنْ تَرَكَهَا مُقَصِّرًا؛ فَأَوْلَى أَنْ يُعَدَّ مَنْ تَرَكَ الْمُسَابَقَةَ مُقَصِّرًا‏.‏

وَجَاءَ عَنْهُ أَيْضًا فِيمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِسِفَرٍ أَوْ مَرَضٍ، ثُمَّ قَدِمَ أَوْ صَحَّ فِي غَيْرِ شَعْبَانَ مِنْ شُهُورِ الْقَضَاءِ، فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى مَاتَ؛ فَعَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، وَجَعَلَهُ مُفَرِّطًا، كَمَنْ صَحَّ أَوْ قَدِمَ فِي شَعْبَانَ؛ فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ الثَّانِي، مَعَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُ‏.‏

قَالَ اللَّخْمِيُّ‏:‏ جَعَلَهُ مُتَرَقِّبًا لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا عَلَى التَّرَاخِي، فَإِنْ قَضَى فِي شَعْبَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ شَعْبَانَ فَلَا إِطْعَامَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ شَعْبَانَ فَمُفَرِّطٌ، وَعَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْحَجّ‏:‏ إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ كَانَ آثِمًا فَهَذَا أَيْضًا- رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ- مُضَادٌّ لِمُقْتَضَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ‏.‏

فَأَنْتَ تَرَى أَوْقَاتًا مُعَيَّنَةً شَرْعًا؛ إِمَّا بِالنَّصِّ، وَإِمَّا بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ صَارَ مَنْ قَصَّرَ عَنِ الْمُسَابَقَةِ فِيهَا مَلُومًا مُعَاتَبًا، بَلْ آثِمًا فِي بَعْضِهَا، وَذَلِكَ مُضَادٌّ لِمَا تَقَدَّمَ‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ أَصْلَ الْمُسَابَقَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ لَا يُنْكَرُ؛ غَيْرَ أَنَّ مَا عُيِّنَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الزَّمَانِ هَلْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ إِيقَاعَهُ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ مُسَابَقَةٌ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ شَامِلًا لَهُ، أَمْ يُقَالُ‏:‏ لَيْسَ شَامِلًا لَهُ‏؟‏

وَالْأَوَّلُ هُوَ الْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ‏:‏ «الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا» يُرِيدُ بِهِ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ مُطْلَقًا، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ «عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الْأَوْقَاتَ صَلَّى فِي أَوَائِلِ الْأَوْقَاتِ وَأَوَاخِرِهَا»، وَحَدَّ ذَلِكَ حَدًّا لَا يُتَجَاوَزُ، وَلَمْ يُنَبِّهْ فِيهِ عَلَى تَقْصِيرٍ، وَإِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى التَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَوْقَاتِ الضَّرُورَاتِ إِذَا صَلَّى فِيهَا مَنْ لَا ضَرُورَةَ لَهُ؛ إِذْ قَالَ‏:‏ «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ» الْحَدِيثَ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ التَّفْرِيطِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي تَكُونُ الشَّمْسُ فِيهِ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ‏.‏

فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَنْ وَصْفِ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُسَارَعَةِ، مَنْ خَرَجَ عَنِ الْإِيقَاعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُسَمَّى مُفَرِّطًا وَمُقَصِّرًا وَآثِمًا أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الْفَوْرِيَّةُ‏.‏

وَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ بِوَقْتِ الْعُمْرِ؛ فَإِنَّهَا لَمَّا قُيِّدَ آخِرُهَا بِأَمْرٍ مَجْهُولٍ، كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى طَلَبِ الْمُبَادَرَةِ وَالْمُسَابَقَةِ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْإِمْكَانِ؛ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ مُغَيَّبَةٌ، فَإِذَا عَاشَ الْمُكَلَّفُ مَا فِي مِثْلِهِ يُؤَدَّى ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، فَلَمْ يَفْعَلْ مَعَ سُقُوطِ الْأَعْذَارِ- عُدَّ وَلَا بُدَّ مُفَرِّطًا، وَأَثَّمَهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ هِيَ الْمَطْلُوبُ، لَا أَنَّهُ عَلَى التَّحْقِيقِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ؛ فَإِنَّ آخِرَهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ مِنْهُ مَا فِي الْيَدِ الْآنَ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَصْلِنَا الْمَذْكُورِ؛ فَلَا تَعُودُ عَلَيْهِ بِنَقْضٍ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَلَا يُنْكَرُ اسْتِحْبَابُ الْمُسَابَقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ الْمُؤَخِّرُ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ مُقَصِّرًا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ عَلَى حُكْمِ التَّوْسِعَةِ، وَهَذَا كَمَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ فَإِنَّ لِلْمُكَلَّفِ الِاخْتِيَارَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ فِيهَا يَتَفَاوَتُ فَيَكُونُ بَعْضُهَا أَكْثَرَ أَجْرًا مِنْ بَعْضٍ، كَمَا يَقُولُ بِذَلِكَ مَالِكٌ فِي الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ رَمَضَانَ مَعَ وُجُودِ التَّخْيِيرِ فِي الْحَدِيثِ، وَقَوْلُ مَالِكٍ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَوِ الْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّ الرِّقَابِ شَاءَ، مَعَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَعْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفُسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَلَا يَخْرَجُ بِذَلِكَ التَّخْيِيرُ عَنْ بَابِهِ، وَلَا يُعَدُّ مُخْتَارُ غَيْرِ الْأَعْلَى مُقَصِّرًا، وَلَا مُفَرِّطًا، وَكَذَلِكَ مُخْتَارُ الْكِسْوَةِ أَوِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمُطْلَقَاتِ الَّتِي لَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي تَعْيِينِ بَعْضِ أَفْرَادِهَا مَعَ حُصُولِ الْفَضْلِ فِي الْأَعْلَى مِنْهَا، وَكَمَا أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَلَا يُعَدُّ الْحَاجُّ رَاكِبًا مُفَرِّطًا، وَلَا مُقَصِّرًا، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ مِنْ قِلَّتِهَا، وَلَا يُعَدُّ مَنْ كَانَ جَارَ الْمَسْجِدِ بِقِلَّةِ خُطَاهُ لَهُ مُقَصِّرًا، بَلِ الْمُقَصِّرُ هُوَ الَّذِي قَصَّرَ عَمَّا حُدَّ لَهُ، وَخَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي مَسْأَلَتِنَا ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ فَرَضْنَا صِحَّتَهُ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْأَصْلِ الْقَطْعِيِّ، وَإِنْ سَلِمَ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّأْخِيرِ عَنْ جَمِيعِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، وَإِنْ سَلِمَ؛ فَأَطْلَقَ لَفْظَ التَّقْصِيرِ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى مِنَ الْمُسَارَعَةِ إِلَى تَضْعِيفِ الْأُجُورِ، لَا أَنَّ الْمُؤَخِّرَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْأَمْرِ‏.‏

وَأَمَّا مَسَائِلُ مَالِكٍ؛ فَلَعَلَّ اسْتِحْبَابَهُ لِتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ، وَتَرْكِ الْجَمَاعَةِ- مُرَاعَاةٌ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ لِلصُّبْحِ وَقْتَ ضَرُورَةٍ، وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَخَّرَ إِلَيْهِ، وَمَا ذُكِرَ فِي إِطْعَامِ التَّفْرِيطِ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ فِي الْقَضَاءِ- فَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ؛ فَلَا اعْتِرَاضَ بِذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة‏:‏ ‏[‏الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ‏]‏

الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَلَى ضَرْبَيْنِ- كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالدُّيُونِ، وَالنَّفَقَاتِ، وَالنَّصِيحَةِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ-‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ حُقُوقٌ مَحْدُودَةٌ شَرْعًا‏.‏

وَالْآخَرُ حُقُوقٌ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ‏.‏

‏[‏الحُقُوقُ المَحْدُودَةُ شَرْعًا‏]‏

فَأَمَّا الْمَحْدُودَةُ الْمُقَدَّرَةُ؛ فَلَازِمَةٌ لِذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِ دَيْنًا، حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهَا، كَأَثْمَانِ الْمُشْتَرَيَاتِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ، وَفَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا مُتَرَتِّبٌ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ التَّحْدِيدُ وَالتَّقْدِيرُ؛ فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْقَصْدِ إِلَى أَدَاءِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهِ فَالْخِطَابُ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ‏.‏

‏[‏الحُقُوقُ غَيْرُ المَحْدُودَةِ‏]‏

وَأَمَّا غَيْرُ الْمَحْدُودَةِ فَلَازِمَةٌ لَهُ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأُمُورٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّهَا لَوْ تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّتِهِ لَكَانَتْ مَحْدُودَةً مَعْلُومَةً؛ إِذِ الْمَجْهُولُ لَا يَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يُعْقَلُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَرَتَّبَ دَيْنًا، وَبِهَذَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى عَدَمِ التَّرَتُّبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ مَجْهُولَةُ الْمِقْدَارِ، وَالتَّكْلِيفُ بِأَدَاءِ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ مِقْدَارٌ- تَكْلِيفٌ بِمُتَعَذِّرِ الْوُقُوعِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ سَمْعًا‏.‏

وَمِثَالُهُ‏:‏ الصَّدَقَاتُ الْمُطْلَقَةُ، وَسَدُّ الْخَلَّاتِ، وَدَفْعُ حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ، وَإِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِينَ، وَإِنْقَاذُ الْغَرْقَى، وَالْجِهَادُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ سَائِرُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ‏.‏

فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ‏:‏ ‏{‏وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 36‏]‏ أَوْ قَالَ‏:‏ اكْسُوَا الْعَارِيَ أَوْ ‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 195‏]‏؛ فَمَعْنَى ذَلِكَ طَلَبُ رَفْعِ الْحَاجَةِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ بِحَسَبِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مِقْدَارٍ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ حَاجَةٌ تَبَيَّنَ مِقْدَارُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهَا بِالنَّظَرِ لَا بِالنَّصِّ، فَإِذَا تَعَيَّنَ جَائِعٌ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِطْعَامِهِ، وَسَدِّ خَلَّتِهِ، بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ؛ فَإِنْ أَطْعَمَهُ مَا لَا يَرْفَعُ عَنْهُ الْجُوعَ فَالطَّلَبُ بَاقٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ كَافٍ وَرَافِعٌ لِلْحَاجَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُمِرَ ابْتِدَاءً، وَالَّذِي هُوَ كَافٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السَّاعَاتِ وَالْحَالَاتِ فِي ذَلِكَ الْمَعَيَّنِ؛ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْوَقْتِ غَيْرَ مُفْرِطِ الْجُوعِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مِقْدَارٍ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِذَا تَرَكَهُ حَتَّى أَفْرَطَ عَلَيْهِ؛ احْتَاجَ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، وَقَدْ يُطْعِمُهُ آخَرُ فَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الطَّلَبُ رَأْسًا، ‏[‏وَقَدْ يُطْعِمُهُ آخَرُ مَا لَا يَكْفِيهِ، فَيُطْلَبُ هَذَا بِأَقَلَّ مِمَّا كَانَ مَطْلُوبًا بِهِ‏]‏‏.‏

فَإِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ بِهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّمَّةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ يُطْلَبُ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ مَجْهُولًا، فَلَا يَكُونُ مَعْلُومًا إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ بِحَسَبِ النَّظَرِ لَا بِمُقْتَضَى النَّصِّ، فَإِذَا زَالَ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ صَارَ فِي الثَّانِي مُكَلَّفًا بِشَيْءٍ آخَرَ لَا بِالْأَوَّلِ، أَوْ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ إِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُ الْحَاجَةِ الْعَارِضَةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ لَوْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ أَمْرٌ؛ لَخَرَجَ إِلَى مَا لَا يُعْقَلُ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ مُكَلَّفٌ بِسَدِّهَا، فَإِذَا مَضَى وَقْتٌ يَسَعُ سَدَّهَا بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مَثَلًا، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ فَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ جَاءَ زَمَانٌ ثَانٍ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ أَوْ أَشَدُّ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهُ مُكَلَّفٌ أَيْضًا بِسَدِّهَا أَوَّلًا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ إِذْ لَيْسَ هَذَا الثَّانِي بِأَوْلَى بِالسُّقُوطِ مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ لِأَجْلِ سَدِّ الْخَلَّةِ فَيَرْتَفِعُ التَّكْلِيفُ، وَالْخَلَّةُ بَاقِيَةٌ، هَذَا مُحَالٌ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي الذِّمَّةِ ثَانِيًا مِقْدَارُ مَا تُسَدُّ بِهِ الْحَاجَةُ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَحِينَئِذٍ يَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ- قِيَمٌ كَثِيرَةٌ بِعَدَدِ الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي الشَّرْعِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ هَذَا يَكُونُ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يَلْزَمُ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَنْ يَتَرَتَّبَ إِمَّا فِي ذِمَّةِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ لَا يُعْقَلُ، وَإِمَّا فِي ذِمَمِ جَمِيعِ الْخَلْقِ مُقَسَّطًا، فَكَذَلِكَ لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ الْقِسْطِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ غَيْرَ مُقَسَّطٍ، فَيَلْزَمُ فِيمَا قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي ذِمَمِ مِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ لَوْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ لَكَانَ عَبَثًا، وَلَا عَبَثَ فِي التَّشْرِيعِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ دَفْعَ الْحَاجَةِ؛ فَعُمْرَانُ الذِّمَّةِ يُنَافِي هَذَا الْمَقْصِدَ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ إِزَالَةُ هَذَا الْعَارِضِ، لَا غُرْمُ قِيمَةِ الْعَارِضِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ مُنَافِيًا لِسَبَبِ الْوُجُوبِ؛ كَانَ عَبَثًا غَيْرَ صَحِيحٍ‏.‏

لَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّهُ لَازِمٌ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَأَشْبَاهِهَا؛ إِذِ الْمَقْصُودُ بِهَا سَدُّ؛ الْخَلَّاتِ، وَهِيَ تَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَّةِ‏.‏

لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا ذَكَرْتَ، وَلَكِنِ الْحَاجَةُ الَّتِي تُسَدُّ بِالزَّكَاةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُؤَدَّى اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ عَيْنُ الْحَاجَةِ‏؟‏ فَصَارَتْ كَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ هِبَةٍ، فَلِلشَّرْعِ قَصْدٌ فِي تَضْمِينِ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ مُتَعَيِّنَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إِزَالَتِهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهَا مَالُ زَكَاةٍ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ بِأَيِّ مَالٍ ارْتَفَعَتْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، فَالْمَالُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ لِنَفْسِهِ فِيهَا، فَلَوِ ارْتَفَعَ الْعَارِضُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لَسَقَطَ الْوُجُوبُ، وَالزَّكَاةُ وَنَحْوُهَا لَا بُدَّ مِنْ بَذْلِهَا، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهَا غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَيْهَا فِي الْوَقْتِ، وَلِذَلِكَ عُيِّنَتْ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي بَذْلِ الْمَالِ لِلْحَاجَةِ يَجْرِي حُكْمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ هَذَا الْقِسْمِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ لَوْ كَانَ الْجَهْلُ مَانِعًا مِنَ التَّرَتُّبِ فِي الذِّمَّةِ، لَكَانَ مَانِعًا مِنْ أَصْلِ التَّكْلِيفِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُكَلَّفِ بِهِ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ؛ إِذِ التَّكْلِيفُ بِالْمَجْهُولِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ فَلَوْ قِيلَ لِأَحَدٍ‏:‏ أَنْفِقْ مِقْدَارًا لَا تَعْرِفُهُ أَوْ صَلِّ صَلَوَاتٍ لَا تَدْرِي كَمْ هِيَ أَوِ انْصَحْ مَنْ لَا تَدْرِيهِ وَلَا تُمَيِّزُهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْمُكَلَّفِ بِهِ أَبَدًا إِلَّا بِوَحْيٍ، وَإِذَا عُلِمَ بِالْوَحْيِ؛ صَارَ مَعْلُومًا لَا مَجْهُولًا، وَالتَّكْلِيفُ بِالْمَعْلُومِ صَحِيحٌ، هَذَا خُلْفٌ‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ الْجَهْلَ الْمَانِعَ مِنْ أَصْلِ التَّكْلِيفِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَيَّنٍ عِنْدَ الشَّارِعِ؛ كَمَا لَوْ قَالَ‏:‏ أَعْتِقْ رَقَبَةً، وَهُوَ يُرِيدُ الرَّقَبَةَ الْفُلَانِيَّةَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، فَهَذَا هُوَ الْمُمْتَنَعُ، أَمَّا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عِنْدَ الشَّارِعِ بِحَسَبِ التَّكْلِيفِ؛ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ صَحِيحٌ، كَمَا صَحَّ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْخِصَالِ فِي الْكَفَّارَةِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي إِحْدَى الْخِصَالِ دُونَ مَا بَقِيَ، فَكَذَلِكَ هُنَا إِنَّمَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ سَدُّ الْخَلَّاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ خَلَّةٌ فَلَا طَلَبَ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ وَقَعَ الطَّلَبُ، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهُوَ مُمْكِنٌ لِلْمُكَلَّفِ مَعَ نَفْيِ التَّعْيِينِ فِي مِقْدَارٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ‏.‏

وَهُنَا ضَرْبٌ ثَالِثٌ آخِذٌ بِشِبْهٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْأَوَّلِينَ؛ فَلَمْ يَتَمَحَّضْ لِأَحَدِهِمَا، هُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ كَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ، وَالزَّوْجَاتِ، وَلِأَجَلِّ مَا فِيهِ مِنَ الشَّبَهِ بِالضَّرْبَيْنِ، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيه‏:‏ هَلْ لَهُ تَرَتُّبٌ فِي الذِّمَّةِ أَمْ لَا‏؟‏ فَإِذَا تَرَتَّبَ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ، فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ لَاحِقٌ بِضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ مُحِضَ بِالتَّقْدِيرِ وَالتَّعْيِينِ، وَالثَّانِي لَاحِقٌ بِقَاعِدَةِ التَّحْسِينِ، وَالتَّزْيِينِ، وَلِذَلِكَ وُكِلَ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالثَّالِثُ آخِذٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِسَبَبٍ مَتِينٍ؛ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ عَلَى التَّعْيِينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏فُرُوضُ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ‏]‏

وَرُبَّمَا انْضَبَطَ الضَّرْبَانِ الْأَوَّلَانِ بِطَلَبِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ؛ فَإِنَّ حَاصِلَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ طَلَبٌ مُقَدَّرٌ عَلَى كُلِّ عَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ الْمُكَلَّفِينَ، وَحَاصِلُ الثَّانِي إِقَامَةُ الْأَوَدِ الْعَارِضِ فِي الدِّينِ وَأَهْلِهِ؛ وَإِلَّا أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ طَلَبُ عَيْنٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ طَلَبًا مُتَحَتِّمًا فِي الْغَالِبِ إِلَّا عِنْدَ كَوْنِهِ كِفَايَةً؛ كَالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَحَتَّمْ فَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَفُرُوضُ الْكِفَايَاتِ مَنْدُوبَاتٌ عَلَى الْأَعْيَانِ فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ، وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ؛ فَآخُذٌ شَبَهًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَيْضًا؛ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلِهِ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة‏:‏ ‏[‏فِي مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ‏]‏

يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مَرْتَبَةُ الْعَفْوِ، فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ هَكَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَوْجُهٌ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْخَمْسَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مَعَ الْقَصْدِ إِلَى الْفِعْلِ، وَأَمَّا دُونَ ذَلِكَ فَلَا، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ مِنْهَا مَعَ وِجْدَانِهِ، مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ، فَهُوَ مَعْنَى الْعَفْوِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ، أَيْ‏:‏ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا جَاءَ مِنَ النَّصِّ عَلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ لَا عَنْ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهَا فِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 222‏]‏‏.‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 220‏]‏‏.‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

مَا كَانُوا يُسْأَلُونَ إِلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ هَذَا كَانَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ؛ فَهُوَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ لَمْ يُحَرَّمْ؛ فَيَقُولُ‏:‏ عَفْوٌ، وَقِيلَ لَهُ‏:‏ مَا تَقُولُ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَ‏:‏ الْعَفْوُ، ‏[‏يَعْنِي لَا تؤْخَذُ مِنْهُمْ زَكَاةٌ‏]‏‏.‏

وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ‏:‏ أَحَلَّ اللَّهُ حَلَالًا، وَحَرَّمَ حَرَامًا، فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 43‏]‏؛ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ فِي الْإِذْنِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ‏.‏

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ الْعَفْوُ عَنِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، حَسْبَمَا بَسَطَهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكْرَهُ كَثْرَةَ السُّؤَالِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ حُكْمٌ، بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ؛ إِذْ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْأَفْعَالَ مَعَهَا مَعْفُوٌّ عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ‏:‏ «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «زَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهَوْا، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»‏.‏

وَقَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 97‏]‏؛ فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُلَّ عَامٍ، فَأَعْرَضَ، ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُلَّ عَامٍ، فَأَعْرَضَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُلَّ عَامٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه‏:‏ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، وَلَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ، فَذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ»، ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَفِي مِثْلِ هَذَا نَزَلَتْ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 101‏]‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْهَا‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 101‏]‏‏.‏

أَيْ‏:‏ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ؛ فَهِيَ إِذًا عَفْوٌ‏.‏

وَقَدْ كَرِهَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَسَائِلَ، وَعَابَهَا، وَنَهَى عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، «وَقَامَ يَوْمًا وَهُوَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ، وَذَكَرَ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا، قَالَ أَنَسٌ‏:‏ فَأَكْثَرَ النَّاسُ مِنَ الْبُكَاءِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ، وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ سَلُونِي، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ فَقَالَ‏:‏ مَنْ أَبِي‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَبُوكَ حُذَافَةُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي، بَرَكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، قَالَ‏:‏ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ»، وَقَالَ أَوَّلًا‏:‏ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ وَأَنَا أُصَلِّي، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ»، وَظَاهِرٌ مِنْ هَذَا الْمَسَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ «سَلُونِي» فِي مَعْرِضِ الْغَضَبِ تَنْكِيلٌ بِهِمْ فِي السُّؤَالِ حَتَّى يَرَوْا عَاقِبَةَ السُّؤَالِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 101‏]‏، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا يُعْفَى عَنْهُ، وَهُوَ مَا نُهِيَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهُ‏.‏

فَكَوْنُ الْحَجِّ لِلَّهِ هُوَ مُقْتَضَى الْآيَةِ كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ لِلْعَامِ الْحَاضِرِ تَقْتَضِيهِ أَيْضًا؛ فَلَمَّا سَكَتَ عَنِ التَّكْرَارِ كَانَ الَّذِي يَنْبَغِي الْحِمْلُ عَلَى أَخَفِّ مُحْتَمَلَاتِهِ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْآخَرَ مُرَادٌ، فَهُوَ مِمَّا يُعْفَى عَنْهُ، وَمِثْلُ هَذَا قِصَّةُ أَصْحَابِ الْبَقَرَةِ لَمَّا شَدَّدُوا بِالسُّؤَالِ،- وَكَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ ذَبْحِ أَيِّ بَقَرَةٍ شَاءُوا-؛ شَدَّدَ عَلَيْهِمْ حَتَّى ذَبَحُوهَا، ‏{‏وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 71‏]‏‏.‏

فَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مَا لَا يَحْسُنُ السُّؤَالُ عَنْهُ، وَعَنْ حُكْمِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعْفُوًّا عَنْهُ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏مَوَاطِنُ الْعَفْوِ فِي الشَّرِيعَةِ‏]‏

وَيَظْهَرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، مِنْهَا مَا يَكُونُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ- وَمِنْهَا مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ‏.‏

- فَمِنْهَا‏:‏ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ حُكْمهمَا؛ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، فَكُلُّ فِعْلٍ صَدَرَ عَنْ غَافِلٍ أَوْ نَاسٍ أَوْ مُخْطِئٍ فَهُوَ مِمَّا عَفِيَ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَفَرَضْنَا تِلْكَ الْأَفْعَالَ مَأْمُورًا بِهَا أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَلَا مَأْمُورًا بِهَا، وَلَا مُخَيَّرًا فِيهَا- فَقَدْ رَجَعَتْ إِلَى قِسْمِ مَا لَا حُكْمَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ مَعْنَى الْعَفْوِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ فَمِنْ شَرْطِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ ذِكْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَذَلِكَ فِي الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي وَالْغَافِلِ مُحَالٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ النَّائِمُ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْحَائِضُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ حُكْمه، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وَقَالَ ‏{‏لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 68‏]‏‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ الْإِكْرَاهُ حُكْمه، كَانَ مِمَّا يُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْ مِمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ، إِذَا قُلْنَا بِجَوَازِهِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْعَفْوِ، كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَاقِيَيْنِ عَلَيْهِ أَوْ لَا؛ فَإِنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ أَنَّ تَرْكَهُ لِمَا تَرَكَ، وَفِعْلَهُ لِمَا فَعَلَ- لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ الرُّخَصُ حُكْمهَا كُلُّهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ؛ حَيْثُ نُصَّ عَلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ مُبَاحَةً أَوْ مَطْلُوبَةً؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً فَيَلْزَمُهَا الْعَفْوُ عَنْ نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ، فَأَكْلُ الْمَيْتَةِ إِذَا قُلْنَا بِإِيجَابِهِ فَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ نَقِيضُهُ، وَهُوَ التَّرْكُ، مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ فِي التَّكْلِيفِ بِهِمَا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَمَرْفُوعٌ عَنِ الْأُمَّةِ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا حُكْمه، وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ، فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ كَانَ مُقْتَضَى الْمَرْجُوحِ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنِ التَّرْجِيحُ، فَيُؤَدِّي إِلَى رَفْعِ أَصْلِهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخِطَابِ بِالنَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا بِبَقَاءِ الِاقْتِضَاءِ فِي الدَّلِيلِ الْمَرْجُوحِ، وَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الثَّابِتِ، أَمْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ؛ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي لُزُومِ الْعَفْوِ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ الْعَمَلُ عَلَى مُخَالَفَةِ دَلِيلٍ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ عَلَى مُوَافَقَةِ دَلِيلٍ بَلَغَهُ حُكْمه، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَنْسُوخٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ؛ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ بُلُوغِ الدَّلِيلِ إِلَيْهِ، وَعِلْمِهِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ عِنْدَ تَزَاحُمِهِمَا، وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، حُكْمه لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْعَفْوِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤَخَّرِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمُقَدَّمُ؛ لِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِمَا، وَإِلَّا لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ شَرْعًا‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ مَا سُكِتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ مَعَ وُجُودِ مَظِنَّتِهِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْعَفْوِ فِيهِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ فِي الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ فَهُوَ مِمَّا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏اسْتِدْلَالَاتُ مَنْ مَنَعَ مَرْتَبَةَ الْعَفْوِ‏]‏

وَلِمَانِعِ مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ عَلَيْهِ بِأَوْجُهٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ هُمْ مُكَلَّفُونَ؛ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِجُمْلَتِهَا دَاخِلَةً تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ الِاقْتِضَاءُ أَوِ التَّخْيِيرُ، أَوْ لَا تَكُونَ بِجُمْلَتِهَا دَاخِلَةً؛ فَإِنْ كَانَتْ بِجُمْلَتِهَا دَاخِلَةً، فَلَا زَائِدَ عَلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً بِجُمْلَتِهَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَلَوْ فِي وَقْتٍ أَوْ حَالَةٍ مَا، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا فَرَضْنَاهُ مُكَلَّفًا؛ فَلَا يَصِحُّ خُرُوجُهُ، فَلَا زَائِدَ عَلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ هَذَا الزَّائِدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ لَا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ‏.‏

وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَنَّهُ مُسَمًّى بِالْعَفْوِ، وَالْعَفْوُ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُتَوَقَّعُ لِلْمُكَلَّفِ حُكْمُ الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ بِهِ قَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَارَدَ عَلَيْهِ حُكْمٌ آخَرُ لِتَضَادِّ الْأَحْكَامِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ أُخْرَوِيٌّ لَا دُنْيَوِيٌّ، وَكَلَامُنَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَوَجِّهَةِ فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَفْوُ حُكْمًا شَرْعِيًّا؛ فَإِمَّا مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، أَوْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَأَنْوَاعُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ مَحْصُورَةٌ فِي الْخَمْسَةِ، وَأَنْوَاعُ خِطَابِ الْوَضْعِ مَحْصُورَةٌ أَيْضًا فِي الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُصُولِيُّونَ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا، فَكَانَ لَغْوًا‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ هَذَا الزَّائِدَ إِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ، وَهِيَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَخْلُوَ بَعْضُ الْوَقَائِعِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ أَمْ لَا، فَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَلَيْسَ إِثْبَاتُهَا أَوْلَى مِنْ نَفْيِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَالْأَدِلَّةُ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ، فَلَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهَا إِلَّا بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنِ الْمُعَارِضِ وَدَعْوَاهُ‏.‏

وَأَيْضًا؛ إِنْ كَانَتِ اجْتِهَادِيَّةً فَالظَّاهِرُ نَفْيُهَا بِالْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إِلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَلَيْسَتْ بِمَفْهُومَةٍ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ لَا دَلِيلَ فِيهِ، فَالْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ غَيْرُ مُقْتَضِيَةٍ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ؛ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الْعَفْوَ أُخْرَوِيٌّ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ سُلِّمَ لِلْعَفْوِ ثُبُوتٌ، فَفِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا فِي غَيْرِهِ، وَلِإِمْكَانِ تَأْوِيلِ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنْوَاعِهِ فَدَاخِلَةٌ أَيْضًا تَحْتَ الْخَمْسَةِ؛ فَإِنَّ الْعَفْوَ فِيهَا رَاجِعٌ إِلَى رَفْعِ حُكْمِ الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالْإِكْرَاهِ، وَالْحَرَجِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِمَّا الْجَوَازَ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ، وَإِمَّا رَفْعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنَ الذَّمِّ وَتَسْبِيبِ الْعِقَابِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ رَفْعِ آثَارِهِمَا لِمُعَارِضٍ، فَارْتَفَعَ الْحُكْمُ بِمَرْتَبَةِ الْعَفْوِ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْخَمْسَةِ، وَفِي هَذَا الْمَجَالِ أَبْحَاثٌ أُخَرُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏النَّظَرُ فِي ضَوَابِطِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَفْوِ‏]‏

وَلِلنَّظَرِ فِي ضَوَابِطِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَفْوِ- إِنْ قِيلَ- بِهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَى مَحَالِّ النُّصُوصِ نَزْغَةٌ ظَاهِرِيَّةٌ، وَالِانْحِلَالُ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَرْقٌ لَا يُرَقَّعُ، وَالِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى بَعْضِ الْمَحَالِّ دُونَ بَعْضٍ تَحَكُّمٌ يَأْبَاهُ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَجْهٍ يُقْصَدُ نَحْوُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ الْوُقُوفُ مَعَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ قُصِدَ نَحْوُهُ وَإِنْ قَوِيَ مُعَارِضُهُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الْخُرُوجُ عَنْ مُقْتَضَاهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ عَنْ قَصْدٍ، لَكِنْ بِالتَّأْوِيلِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ الْعَمَلُ بِمَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْ حُكْمِهِ رَأْسًا‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ‏:‏ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ حُكْمُ الرُّخْصَةِ ظَاهِرًا؛ فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ لَمَّا تُوُخِّيَتْ عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ أَوِ الْإِطْلَاقِ؛ كَانَ الْوَاقِفُ مَعَهَا وَاقِفًا عَلَى دَلِيلٍ مِثْلِهِ مُعْتَمَدٍ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِالرُّخْصَةِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ؛ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ، كَمَا أَنَّ الْعَزِيمَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ، وَكِلَاهُمَا أَصْلٌ كُلِّيٌّ، فَالرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ الرُّخْصَةِ وُقُوفٌ مَعَ مَا مِثْلُهُ مُعْتَمَدٌ‏.‏

لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَصْلُ رَفْعِ الْحَرَجِ وَارِدًا عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ وُرُودَ الْمُكَمِّلِ، تَرَجَّحَ جَانِبُ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ بِوَجْهٍ مَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَخْرِمُ أَصْلَ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْمُكَمِّلِ قِيَامُ أَصْلِ التَّكْلِيفِ‏.‏

وَقَدِ اعْتُبِرَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ هَذَا، فَفِيه‏:‏ إِنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، فَظَنَّ أَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ بِهِ فَأَفْطَرَ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَفْطَرَ فِيهِ بِتَأْوِيلٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ غَيْرَ عِلْمِيٍّ، بَلْ هَذَا جَارٍ فِي كُلِّ مُتَأَوِّلٍ؛ كَشَارِبِ الْمُسْكِرِ ظَانًّا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْكِرٍ، وَقَاتِلِ الْمُسْلِمِ ظَانًّا أَنَّهُ كَافِرٌ، وَآكِلِ الْمَالِ الْحَرَامِ عَلَيْهِ ظَانًّا أَنَّهُ حَلَالٌ لَهُ، وَالْمُتَطَهِّرِ بِمَاءٍ نَجِسٍ ظَانًّا أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ‏.‏

وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ‏:‏ اجْلِسُوا، فَجَلَسَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ «تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ»‏.‏ فَظَاهِرٌ مِنْ هَذَا أَنَّهُ رَأَى الْوُقُوفَ مَعَ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ، وَإِنْ قُصِدَ غَيْرُهُ، مُسَارَعَةً إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ‏.‏

وَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَهُوَ بِالطَّرِيقِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ اجْلِسُوا، فَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ مَا شَأْنُكَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ سَمِعْتُكَ تَقُولُ‏:‏ اجْلِسُوا، فَجَلَسْتُ‏.‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «زَادَكَ اللَّهُ طَاعَةً»، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِالْأَمْرِ بِالْجُلُوسِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ سَارَعَ إِلَى امْتِثَالِهِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ جَالِسًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ جُلُوسٍ‏.‏

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «لَا يُصَلِّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فَأَدْرَكَهُمْ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ بَلْ نُصَلِّي، وَلَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ‏.‏ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدَةً مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ‏.‏

وَيَدْخُلُ هَاهُنَا كُلُّ قَضَاءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خَطَؤُهُ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخْطَأَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ بَعْضَ الْقَوَاطِعِ، وَكَذَلِكَ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ؛ فَإِنَّهُ وُقُوفٌ مَعَ أَحَدِهِمَا وَإِهْمَالٌ لِلْآخَرِ، فَإِذَا فُرِضَ مُهْمَلًا لِلرَّاجِحِ فَذَلِكَ لِأَجْلِ وُقُوفِهِ مَعَ الْمَرْجُوحِ، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِدَلِيلٍ مَنْسُوخٍ أَوْ غَيْرِ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ وُقُوفٌ مَعَ ظَاهِرِ دَلِيلٍ يُعْتَمَدُ مِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مَعْنَى الْعَفْوِ الْمَذْكُورِ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا‏:‏ الْوُقُوفُ مَعَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ، فَشُرِطَ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَارِضٍ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَفْوِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ تَخْيِيرٌ عُمِلَ عَلَى وَفْقِهِ، فَلَا عَتْبَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ، وَلَا مُؤَاخَذَةَ تَلْزَمُهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَا مَوْقِعَ لِلْعَفْوِ فِيهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ وَإِنْ قَوِيَ مُعَارِضُهُ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْوَ مُعَارِضُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، بَلْ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَى إِثْرِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ تَرْكٌ لِدَلِيلٍ، وَهُنَا وَإِنْ كَانَ إِعْمَالًا لِدَلِيلٍ أَيْضًا؛ فَأَعْمَالُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَقْوَى عِنْدَ النَّاظِرِ أَوْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَإِعْمَالِ الدَّلِيلِ غَيْرِ الْمُعَارِضِ؛ فَلَا عَفْوَ فِيهِ‏.‏

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ عَنْ قَصْدٍ، لَكِنْ بِالتَّأْوِيلِ، حُكْمه فَمِنْهُ الرَّجُلُ يَعْمَلُ عَمَلًا عَلَى اعْتِقَادِ إِبَاحَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُ تَحْرِيمِهِ أَوْ كَرَاهِيَّتِهِ، أَوْ يَتْرُكُهُ مُعْتَقِدًا إِبَاحَتَهُ إِذَا لَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُ وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ، كَقَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمَةٌ فَيَشْرَبُهَا، أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ وَاجِبٌ، فَيَتْرُكُهُ، وَكَمَا اتَّفَقَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ حِينَ لَمْ تَعْلَمِ الْأَنْصَارُ طَلَبَ الْغُسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ يَتَبَيَّنُ لِلْمُجْتَهِدِينَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَخْلِيلَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ، وَيَرَاهُ مِنَ التَّعَمُّقِ، حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَلِّلُ؛ فَرَجَعَ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَكَمَا اتَّفَقَ لِأَبِي يُوسُفَ مَعَ مَالِكٍ فِي الْمُدِّ وَالصَّاعِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا، وَمِمَّا يُرْوَى مِنَ الْحَدِيث‏:‏ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»؛ فَإِنْ صَحَّ فَذَلِكَ، وَإِلَّا فَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ‏.‏

وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فِي أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَإِنْ وُجِدَ الْقَصْدُ- الْإِكْرَاهُ الْمُضَمَّنُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا الْعَفْوُ عَنْ عَثَرَاتِ ذَوِي الْهَيْئَاتِ؛ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ إِقَالَتُهُمْ فِي الزَّلَّاتِ، وَأَنْ لَا يُعَامَلُوا بِسَبَبِهَا مُعَامَلَةَ غَيْرِهِمْ، جَاءَ فِي الْحَدِيث‏:‏ «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ‏:‏ «تَجَافُوا عَنْ عُقُوبَةِ ذَوِي الْمُرُوءَةِ وَالصَّلَاحِ»، وَرُوِيَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ؛ فَإِنَّهُ قَضَى بِهِ فِي رَجُلٍ مِنْ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ شَجَّ رَجُلًا، وَضَرَبَهُ فَأَرْسَلَهُ؛ وَقَالَ‏:‏ أَنْتَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ‏.‏

وَفِي خَبَرٍ آخَرَ‏:‏ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ اسْتَأْدَى عَلَيَّ مَوْلًى لِي جَرَحْتُهُ يُقَالُ‏:‏ لَهُ سَلَامٌ الْبَرْبَرِيُّ إِلَى ابْنِ حَزْمٍ فَأَتَانِي فَقَالَ‏:‏ جَرَحْتَهُ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ خَالَتِي عَمْرَةَ تَقُولُ‏:‏ قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ‏.‏

وَهَذَا أَيْضًا مِنْ شُئُونِ رَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النَّجْم‏:‏ 31- 32‏]‏، لَكِنَّهَا أَحْكَامٌ أُخْرَوِيَّةٌ، وَكَلَامُنَا فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ‏.‏

وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى دَرْءُ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ يَقُومُ هُنَالِكَ مُفِيدًا لِلظَّنِّ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِذَا عَارَضَهُ شُبْهَةٌ وَإِنْ ضَعُفَتْ، غَلَبَ حُكْمُهَا، وَدَخَلَ صَاحِبُهَا فِي حُكْمِ الْعَفْوِ، وَقَدْ يُعَدُّ هَذَا الْمَجَالُ مِمَّا خُولِفَ فِيهِ الدَّلِيلُ بِالتَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا، وَمِثَالُ مُخَالَفَتِهِ بِالتَّأْوِيلِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِالدَّلِيلِ، مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 93‏]‏ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ حِينَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب‏:‏ إِنْ كُنْتُ شَرِبْتُهَا فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي، قَالَ عُمَرُ‏:‏ وَلِمَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 93‏]‏‏.‏ فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ إِنَّكَ أَخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ، إِذَا اتَّقَيْتَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ‏:‏ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تُكَفِّرُ مَا كَانَ مِنْ شُرْبِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنِ اتَّقَى وَآمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ، وَأَخْطَأَ فِي التَّأْوِيلِ، بِخِلَافِ مَنِ اسْتَحَلَّهَا؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَأْتِ فِي حَدِيثِ قُدَامَةَ أَنَّهُ حُدَّ‏.‏

وَمِمَّا وَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ زَمَانًا جَاهِلَةً بِالْعَمَلِ- أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهَا فِيمَا تَرَكَتْ، قَالَ فِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَر‏:‏ لَوْ طَالَ بِالْمُسْتَحَاضَةِ وَالنُّفَسَاءِ الدَّمُ فَلَمْ تُصَلِّ النُّفَسَاءُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا الْمُسْتَحَاضَةُ شَهْرًا، لَمْ يَقْضِيَا مَا مَضَى إِذَا تَأَوَّلْنَا فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ دَوَامَ مَا بِهِمَا مِنَ الدَّمِ، وَقِيلَ فِي الْمُسْتَحَاضَة‏:‏ إِذَا تَرَكَتْ بَعْدَ أَيَّامِ أَقْرَائِهَا يَسِيرًا أَعَادَتْهُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهُ بِالْوَاجِبِ، وَفِي سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ مَالِكٍ‏:‏ أَنَّهَا إِذَا تَرَكَتِ الصَّلَاةَ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ جَاهِلَةً، لَا تَقْضِي صَلَاةَ تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَاسْتَحَبَّ ابْنُ الْقَاسِمِ لَهَا الْقَضَاءَ؛ فَهَذَا كُلُّهُ مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ مَعَ الْجَهْلِ وَالتَّأْوِيلِ؛ فَجَعَلُوهُ مِنْ قَبِيلِ الْعَفْوِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْمُسَافِرُ يَقْدَمُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَيَظُنُّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَا صَوْمَ لَهُ، أَوْ تَطْهُرُ الْحَائِضُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ فَتَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صَوْمُهَا حَتَّى تَطْهُرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَلَا كَفَّارَةَ هُنَا، وَإِنْ خَالَفَ الدَّلِيلَ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ، وَإِسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ هُوَ مَعْنَى الْعَفْوِ‏.‏

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْ حُكْمِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ خُلُوَّ بَعْضِ الْوَقَائِعِ عَنْ حُكْمٍ لِلَّهِ- مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْخُلُوِّ، فَيَتَوَجَّهُ النَّظَرُ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيث‏:‏ «وَمَا سُكِتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ»، وَأَشْبَاهِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ‏.‏

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَيُشْكِلُ الْحَدِيثُ؛ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ بِحَالٍ، بَلْ هُوَ إِمَّا مَنْصُوصٌ، وَإِمَّا مَقِيسٌ عَلَى مَنْصُوصٍ، وَالْقِيَاسُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا نَازِلَةَ إِلَّا وَلَهَا فِي الشَّرِيعَةِ مَحَلُّ حُكْمٍ؛ فَانْتَفَى الْمَسْكُوتُ عَنْهُ إِذًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُصْرَفَ السُّكُوتُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَى تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ مَعَ وُجُودِ مَظِنَّتِهِ، وَإِلَى السُّكُوتِ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ مَعَ اسْتِصْحَابِهَا فِي الْوَقَائِعِ، وَإِلَى السُّكُوتِ عَنْ أَعْمَالٍ أُخِذَتْ قَبْلُ مِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 5‏]‏، فَإِنَّ هَذَا الْعُمُومَ يَتَنَاوَلُ بِظَاهِرِهِ مَا ذَبَحُوا لِأَعْيَادِهِمْ، وَكَنَائِسِهِمْ، وَإِذَا نُظِرَ إِلَى الْمَعْنَى ‏[‏أُشْكِلَ‏]‏، لِأَنَّ فِي ذَبَائِحِ الْأَعْيَادِ زِيَادَةٌ تُنَافِي أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَكَانَ لِلنَّظَرِ هُنَا مَجَالٌ، وَلَكِنَّ مَكْحُولًا سُئِلَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ‏:‏ كُلْهُ، قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا يَقُولُونَ، وَأَحَلَّ ذَبَائِحَهُمْ، يُرِيدُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُخَصَّ عُمُومُهَا، وَإِنْ وُجِدَ هَذَا الْخَاصُّ الْمُنَافِي‏.‏ وَعَلِمَ اللَّهُ مُقْتَضَاهُ، وَدُخُولَهُ تَحْتَ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَحَلَّ مَا لَيْسَ فِيهِ عَارِضٌ وَمَا هُوَ فِيهِ، لَكِنْ بِحُكْمِ الْعَفْوِ عَنْ وَجْهِ الْمُنَافَاةِ‏.‏

وَإِلَى نَحْوِ هَذَا يُشِيرُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ لَا عَنْ نِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»، وَحَدِيثُ الْحَجِّ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا، حِينَ قَالَ‏:‏ «أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَوْ لِلْأَبَدِ‏؟‏» لِأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ يُعْطِي أَنَّهُ لِلْأَبَدِ، فَكَرِهَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُؤَالَهُ، وَبَيَّنَ لَهُ عِلَّةَ تَرْكِ السُّؤَالِ عَنْ مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ‏:‏ «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا‏.‏‏.‏‏.‏» إِلَخْ، يُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ السُّؤَالَ عَمَّا لَمْ يُحَرَّمْ، ثُمَّ يُحَرَّمُ لِأَجْلِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا يَأْتِي فِي الْغَالِبِ مِنْ جِهَةِ إِبْدَاءِ وَجْهٍ فِيهِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، مَعَ أَنَّ لَهُ أَصْلًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي الْحِلِّيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فُرُوعُهُ فِي أَنْفُسِهَا، أَوْ دَخَلَهَا مَعْنًى يُخَيِّلُ الْخُرُوجَ عَنْ حُكْمِ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَنَحْوُ حَدِيث‏:‏ «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ»، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمِ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَدْرِيجٍ كَالْخَمْرِ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ مُعْتَادَةَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَتُرِكَتْ عَلَى حَالِهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَزَمَانًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُتَعَرَّضْ فِي الشَّرْعِ لِلنَّصِّ عَلَى حُكْمِهَا حَتَّى نَزَلَ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 219‏]‏؛ فَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَالْمَضَارِّ، وَأَنَّ الْأَضْرَارَ فِيهَا أَكْبَرُ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَتُرِكَ الْحُكْمُ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ- وَهُوَ التَّحْرِيمُ- لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا أَرْبَتْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فَالْحُكْمُ لِلْمَفْسَدَةِ، وَالْمَفَاسِدُ مَمْنُوعَةٌ، فَبَانَ وَجْهُ الْمَنْعِ فِيهِمَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَى الْمَنْعِ- وَإِنْ ظَهَرَ وَجْهُهُ- تَمَسَّكُوا بِالْبَقَاءِ مَعَ الْأَصْلِ الثَّابِتِ لَهُمْ بِمَجَارِي الْعَادَاتِ، وَدَخَلَ لَهُمْ تَحْتَ الْعَفْوِ إِلَى أَنْ نَزَلَ مَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاجْتَنِبُوهُ‏}‏؛ فَحِينَئِذٍ اسْتَقَرَّ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، وَارْتَفَعَ الْعَفْوُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 93‏]‏؛ فَإِنَّهُ لَمَّا حُرِّمَتْ قَالُوا‏:‏ كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ، وَهُوَ يَشْرَبُهَا فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَرَفْعُ الْجُنَاحِ هُوَ مَعْنَى الْعَفْوِ‏.‏

وَمِثَالُ ذَلِكَ الرِّبَا الْمَعْمُولُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ بُيُوعُ الْغَرَرِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ، كَبَيْعِ الْمَضَامِينِ، وَالْمَلَاقِيحِ، وَالثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ كُلُّهَا كَانَتْ مَسْكُوتًا عَنْهَا، وَمَا سُكِتَ عَنْهُ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْعَفْوِ، وَالنَّسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرْفَعُ هَذَا الْمَعْنَى لِوُجُودِ جُمْلَةٍ مِنْهُ بَاقِيَةٍ إِلَى الْآنَ عَلَى حُكْمِ إِقْرَارِ الْإِسْلَامِ كَالْقِرَاضِ، وَالْحُكْمِ فِي الْخُنْثَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِيرَاثِ، وَغَيْرِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَسَائِرِ أَفْعَالِهِمَا إِلَّا مَا غَيَّرُوا، فَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ وَيُطَلِّقُونَ، وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا، وَيَمْسَحُونَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَيَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيُلَبُّونَ، وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، وَيَأْتُونَ مُزْدَلِفَةَ وَيَرْمُونَ الْجِمَارَ، وَيُعَظِّمُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَيُحَرِّمُونَهَا، وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيُغَسِّلُونَ مَوْتَاهُمْ وَيُكَفِّنُونَهُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَيَقْطَعُونَ السَّارِقَ وَيَصْلُبُونَ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ فِيهِمْ مِنْ بَقَايَا مِلَّةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ؛ فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَبَقُوا عَلَى حُكْمِهِ حَتَّى أَحْكَمَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ مَا أَحْكَمَ وَانْتَسَخَ مَا خَالَفَهُ فَدَخَلَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ مِمَّا لَمْ يَتَجَدَّدْ فِيهِ خِطَابٌ زِيَادَةً عَلَى التَّلَقِّي مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ نُسِخَ مِنْهَا مَا نُسِخَ، وَأُبْقِي مِنْهَا مَا أُبْقِي عَلَى الْمَعْهُودِ الْأَوَّلِ‏.‏

فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا الْبَسْطِ مَوَاقِعُ الْعَفْوِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَانْضَبَطَتْ- وَالْحَمْدُ لِلَّهِ- عَلَى أَقْرَبِ مَا يَكُونُ، إِعْمَالًا لِأَدِلَّتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ بَقِيَ النَّظَرُ فِي الْعَفْوِ هَلْ هُوَ حُكْمٌ أَمْ لَا‏؟‏، وَإِذَا قِيلَ‏:‏ حُكْمٌ؛ فَهَلْ يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ التَّكْلِيفِ أَمْ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ‏؟‏ هَذَا مُحْتَمَلٌ كُلُّهُ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ عَمَلِيٌّ، لَمْ يَتَأَكَّدِ الْبَيَانُ فِيهِ، فَكَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏فَرْضُ الْكِفَايَةِ‏]‏

طَلَبُ الْكِفَايَةِ حُكْمُهُ يَقُولُ الْعُلَمَاءُ بِالْأُصُولِ أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ، لَكِنْ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَمَا قَالُوهُ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّيِّ الطَّلَبِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ جُزْئِيِّهِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَيَنْقَسِمُ أَقْسَامًا، وَرُبَّمَا تَشَعَّبَ تَشَعُّبًا طَوِيلًا، وَلَكِنَّ الضَّابِطَ لِلْجُمْلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَبَ وَارِدٌ عَلَى الْبَعْضِ، وَلَا عَلَى الْبَعْضِ كَيْفَ كَانَ، وَلَكِنْ عَلَى مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ عُمُومًا‏.‏

‏[‏أَدِلَّةُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ‏]‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 122‏]‏؛ فَوَرَدَ التَّحْضِيضُ عَلَى طَائِفَةٍ لَا عَلَى الْجَمِيعِ‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 104‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ‏}‏ الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، وَرَدَ الطَّلَبُ فِيهَا نَصًّا عَلَى الْبَعْضِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا ثَبَتَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى أَوِ الصُّغْرَى؛ فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا تَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ فِيهِ أَوْصَافُهَا الْمَرْعِيَّةُ لَا عَلَى كُلِّ النَّاسِ، وَسَائِرُ الْوِلَايَاتِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ إِنَّمَا يُطْلَبُ بِهَا شَرَعًا بِاتِّفَاقٍ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقِيَامِ بِهَا، وَالْغَنَاءِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ- حَيْثُ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ- إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْقِيَامُ بِهِ عَلَى مَنْ فِيهِ نَجْدَةٌ وَشَجَاعَةٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْخُطَطِ الشَّرْعِيَّةِ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ بِهَا مَنْ لَا يُبْدِئُ فِيهَا وَلَا يُعِيدُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَمِنْ بَابِ الْعَبَثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْمُجْتَلَبَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ الْمُسْتَدْفَعَةِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ شَرْعًا‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا وَقَعَ مِنْ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ، وَمَا وَقَعَ أَيْضًا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ «يَا أَبَا ذَرٍّ‏:‏ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ نَهَاهُ عَنْهَا، فَلَوْ فُرِضَ إِهْمَالُ النَّاسِ لَهُمَا؛ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ بِدُخُولِ أَبِي ذَرٍّ فِي حَرَجِ الْإِهْمَالِ، وَلَا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ»، وَهَذَا النَّهْيُ يَقْتَضِي أَنَّهَا غَيْرُ عَامَّةِ الْوُجُوبِ، وَنَهَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْضَ النَّاسِ عَنِ الْإِمَارَةِ، فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ‏:‏ نَهَيْتَنِي عَنِ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ وُلِّيتَ فَقَالَ لَهُ‏:‏ وَأَنَا الْآنَ أَنْهَاكَ عَنْهَا، وَاعْتَذَرَ لَهُ عَنْ وِلَايَتِهِ هُوَ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي أَنْ يَقُصَّ؛ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ مَطْلُوبَاتِ الْكِفَايَةِ- أَعْنِي‏:‏ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْقَصَصِ الَّذِي طَلَبَهُ تَمِيمٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏.‏

وَعَلَى هَذَا الْمَهْيَعِ جَرَى الْعُلَمَاءُ فِي تَقْرِيرِ كَثِيرٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْم‏:‏ أَفَرْضٌ هُوَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَمَّا عَلَى كُلِّ النَّاسِ فَلَا يَعْنِي بِهِ الزَّائِدَ عَلَى الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ، وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ أَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مَوْضِعٌ لِلْإِمَامَةِ؛ فَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَالْأَخْذُ فِي الْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ فِيهِ فَقَسَّمَ كَمَا تَرَى، فَجَعَلَ مَنْ فِيهِ قَبُولِيَّةٌ لِلْإِمَامَةِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا جَعَلَهُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى كُلِّ النَّاسِ، وَقَالَ سَحْنُونُ‏:‏ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَتَقْلِيدِ الْعُلُومِ؛ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 104‏]‏، وَمَنْ لَا يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ‏؟‏ أَوْ لَا يَعْرِفُ الْمُنْكَرُ كَيْفَ يَنْهَى عَنْهُ‏؟‏‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَمْرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَاضِحٌ، وَبَاقِي الْبَحْثِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَوْكُولٌ إِلَى عِلْمِ الْأُصُولِ‏.‏

لَكِنْ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ التَّجَوُّزِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْفَرْضِ قِيَامٌ بِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، فَهُمْ مَطْلُوبُونَ بِسَدِّهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَبَعْضُهُمْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا مُبَاشَرَةً، وَذَلِكَ مَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا، وَالْبَاقُونَ- وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا- قَادِرُونَ عَلَى إِقَامَةِ الْقَادِرِينَ، فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوِلَايَةِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِإِقَامَتِهَا، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا مَطْلُوبٌ بِأَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ إِقَامَةُ ذَلِكَ الْقَادِرِ وَإِجْبَارُهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، فَالْقَادِرُ إِذًا مَطْلُوبٌ بِإِقَامَةِ الْفَرْضِ، وَغَيْرُ الْقَادِرِ مَطْلُوبٌ بِتَقْدِيمِ ذَلِكَ الْقَادِرِ؛ إِذْ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى قِيَامِ الْقَادِرِ إِلَّا بِالْإِقَامَةِ، مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَرْتَفِعُ مَنَاطُ الْخِلَافِ فَلَا يَبْقَى لِلْمُخَالَفَةِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏تَقْدِيمٌ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ‏]‏

وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ بَعْضِ تَفَاصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِيَظْهَرَ وَجْهُهَا، وَتَتَبَيَّنَ صِحَّتُهَا بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْخَلْقَ غَيْرَ عَالِمِينَ بِوُجُوهِ مَصَالِحِهِمْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 78‏]‏، ثُمَّ وَضَعَ فِيهِمُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ وَالتَّرْبِيَةِ، تَارَةً بِالْإِلْهَامِ كَمَا يُلْهَمُ الطِّفْلُ الْتِقَامَ الثَّدْيِ وَمَصَّهُ، وَتَارَةً بِالتَّعْلِيمِ؛ فَطَلَبَ النَّاسَ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لِجَمِيعِ مَا يُسْتَجْلَبُ بِهِ الْمَصَالِحُ، وَكَافَّةِ مَا تُدْرَأُ بِهِ الْمَفَاسِدُ إِنْهَاضًا لِمَا جُبِلَ فِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِزِ الْفِطْرِيَّةِ، وَالْمَطَالِبِ الْإِلْهَامِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْأَصْلِ لِلْقِيَامِ بِتَفَاصِيلِ الْمَصَالِحِ- كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ أَوِ الْأَقْوَالِ أَوِ الْعُلُومِ، وَالِاعْتِقَادَاتِ أَوِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَوِ الْعَادِيَّةِ- وَفِي أَثْنَاءِ الْعِنَايَةِ بِذَلِكَ يَقْوَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ، وَمَا أُلْهِمَ لَهُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، فَيَظْهَرُ فِيهِ وَعَلَيْهِ، وَيَبْرُزُ فِيهِ عَلَى أَقْرَانِهِ مِمَّنْ لَمْ يُهَيَّأْ تِلْكَ التَّهْيِئَةَ، فَلَا يَأْتِي زَمَانُ التَّعَقُّلِ إِلَّا وَقَدْ نَجَمَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا فُطِرَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِيَّتِهِ، فَتَرَى وَاحِدًا قَدْ تَهَيَّأَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَآخَرَ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ، وَآخَرَ لِلتَّصَنُّعِ بِبَعْضِ الْمِهَنِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، وَآخَرَ لِلصِّرَاعِ، وَالنِّطَاحِ إِلَى سَائِرِ الْأُمُورِ‏.‏

هَذَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْ غُرِزَ فِيهِ التَّصَرُّفُ الْكُلِّيُّ، فَلَا بُدَّ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ مِنْ غَلَبَةِ الْبَعْضِ عَلَيْهِ، فَيَرِدُ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ مُعَلِّمًا مُؤَدِّبًا فِي حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْتَهِضُ الطَّلَبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَطْلُوبَاتِ بِمَا هُوَ نَاهِضٌ فِيهِ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى النَّاظِرِينَ فِيهِمُ الِالْتِفَاتُ إِلَى تِلْكَ الْجِهَاتِ فَيُرَاعُونَهُمْ بِحَسْبِهَا، وَيُرَاعُونَهَا ‏[‏إِلَى‏]‏ أَنْ تَخْرُجَ فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ فِيهَا حَتَّى يَبْرُزَ كُلُّ وَاحِدٍ فِيمَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَمَالَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْخُطَطِ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهَا، فَيُعَامِلُونَهُمْ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا، إِذَا صَارَتْ لَهُمْ كَالْأَوْصَافِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ وَتَظْهَرُ نَتِيجَةُ تِلْكَ التَّرْبِيَةِ‏.‏

فَإِذَا فُرِضَ- مَثَلًا- وَاحِدٌ مِنَ الصِّبْيَانِ ظَهَرَ عَلَيْهِ حُسْنُ إِدْرَاكٍ وَجَوْدَةُ فَهْمٍ وَوُفُورُ حِفْظٍ لِمَا يَسْمَعُ- وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ- مِيلَ بِهِ نَحْوَ ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ مُرَاعَاةً لِمَا يُرْجَى فِيهِ مِنَ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ التَّعْلِيمِ، فَطُلِبَ بِالتَّعَلُّمِ وَأُدِّبَ بِالْآدَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بِجَمِيعِ الْعُلُومِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُمَالَ مِنْهَا إِلَى بَعْضٍ فَيُؤْخَذَ بِهِ وَيُعَانَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ رَبَّانِيُّو الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ فَمَالَ بِهِ طَبْعُهُ إِلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَأَحَبَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، تُرِكَ وَمَا أَحَبَّ، وَخُصَّ بِأَهْلِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ إِنْهَاضُهُ فِيهِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَهُ، مِنْ غَيْرِ إِهْمَالٍ لَهُ وَلَا تَرْكٍ لِمُرَاعَاتِهِ، ثُمَّ إِنْ وَقَفَ هُنَالِكَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ طَلَبَ الْأَخْذَ فِي غَيْرِهِ أَوْ طُلِبَ بِهِ؛ فُعِلَ مَعَهُ فِيهِ مَا فُعِلَ فِيمَا قَبْلَهُ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ‏.‏

كَمَا لَوْ بَدَأَ بِعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ مَثَلًا- فَإِنَّهُ الْأَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ- فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى مُعَلِّمِيهَا فَصَارَ مِنْ رَعِيَّتِهِمْ، وَصَارُوا هُمْ رُعَاةً لَهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ حِفْظُهُ فِيمَا طَلَبَ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَبِهِمْ؛ فَإِنِ انْتَهَضَ عَزْمُهُ بَعْدُ إِلَى أَنْ صَارَ يَحْذِقُ الْقُرْآنَ صَارَ مِنْ رَعِيَّتِهِمْ، وَصَارُوا هُمْ رُعَاةً لَهُ كَذَلِكَ، وَمِثْلُهُ إِنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ أَوِ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ إِلَى سَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرِيعَةِ مِنَ الْعُلُومِ، وَهَكَذَا التَّرْتِيبُ فِيمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ وَصْفُ الْإِقْدَامِ وَالشَّجَاعَةِ وَتَدْبِيرِ الْأُمُورِ فَيُمَالُ بِهِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَيُعَلَّمُ آدَابَهُ الْمُشْتَرَكِةَ، ثُمَّ يُصَارُ بِهِ إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى مِنْ صَنَائِعِ التَّدْبِيرِ كَالْعِرَافَةِ أَوِ النِّقَابَةِ أَوِ الْجُنْدِيَّةِ أَوِ الْهِدَايَةِ أَوِ الْإِمَامَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ، وَمَا ظَهَرَ لَهُ فِيهِ نَجَابَةٌ وَنُهُوضٌ، وَبِذَلِكَ يَتَرَبَّى لِكُلِّ فِعْلٍ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةِ قَوْمٍ؛ لِأَنَّهُ سُيِّرَ أَوَّلًا فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ، فَحَيْثُ وَقَفَ السَّائِرُ وَعَجَزَ عَنِ السَّيْرِ فَقَدْ وَقَفَ فِي مَرْتَبَةٍ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ قُوَّةٌ زَادَ فِي السَّيْرِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ فِي الْمَفْرُوضَاتِ الْكِفَائِيَّةِ، وَفِي الَّتِي يَنْدُرُ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهَا كَالِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْإِمَارَةِ؛ فَبِذَلِكَ تَسْتَقِيمُ أَحْوَالُ الدُّنْيَا وَأَعْمَالُ الْآخِرَةِ‏.‏

فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ التَّرَقِّيَ فِي طَلَبِ الْكِفَايَةِ لَيْسَ عَلَى تَرْتِيبٍ وَاحِدٍ وَلَا هُوَ عَلَى الْكَافَّةِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا عَلَى الْبَعْضِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْ حَيْثُ الْمَقَاصِدُ دُونَ الْوَسَائِلِ، وَلَا بِالْعَكْسِ، بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ نَظَرُ وَاحِدٍ حَتَّى يُفَصَّلَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَيُوَزَّعَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمِثْلِ هَذَا التَّوْزِيعِ، وَإِلَّا لَمْ يَنْضَبِطِ الْقَوْلُ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ أَوِ الضَّرُورَةِ‏]‏

مَا أَصْلُهُ الْإِبَاحَةُ لِلْحَاجَةِ أَوِ الضَّرُورَةِ إِلَّا أَنَّهُ يَتَجَاذَبُهُ الْعَوَارِضُ الْمُضَادَّةُ لِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ وُقُوعًا أَوْ تَوَقُّعًا، هَلْ يَكُرُّ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ بِالنَّقْضِ أَوَّلًا؛ هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَإِشْكَالٍ، وَالْقَوْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى ذَلِكَ الْمُبَاحِ أَمْ لَا، وَإِذَا لَمْ يُضْطَرَّ إِلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ يَلْحَقَهُ بِتَرْكِهِ حَرَجٌ أَمْ لَا‏.‏

فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ الْمُبَاحِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْعَارِضِ لِأَوْجُهٍ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ أَنَّ ذَلِكَ الْمُبَاحَ قَدْ صَارَ وَاجِبَ الْفِعْلِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِبَاحَةِ، وَإِذَا صَارَ وَاجِبًا لَمْ يُعَارِضْهُ إِلَّا مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَلَيْسَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ هَكَذَا؛ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَرَفُ الْوَاجِبِ أَقْوَى؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ مُعَارَضَةِ الطَّوَارِئِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ مَحَالَّ الِاضْطِرَارِ مُغْتَفَرَةٌ فِي الشَّرْعِ، أَعْنِي أَنَّ إِقَامَةَ الضَّرُورَةِ مُعْتَبَرَةٌ، وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ عَارِضَاتِ الْمَفَاسِدِ مُغْتَفَرٌ فِي جَنْبِ الْمَصْلَحَةِ الْمُجْتَلَبَةِ، كَمَا اغْتُفِرَتْ مَفَاسِدُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، فِي جَنْبِ الضَّرُورَةِ لِإِحْيَاءِ النَّفْسِ الْمُضْطَرَّةِ، وَكَذَلِكَ النُّطْقُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوِ الْكَذِبِ حِفْظًا لِلنَّفْسِ أَوِ الْمَالِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، فَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْعَارِضِ لِلْمَصْلَحَةِ الضَّرُورِيَّةِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا الْعَوَارِضَ، وَلَمْ نَغْتَفِرْهَا لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى رَفْعِ الْإِبَاحَةِ رَأْسًا، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ- كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَقَاصِد‏:‏ مِنْ أَنَّ الْمُكَمِّلَ إِذَا عَادَ عَلَى الْأَصْلِ بِالنَّقْضِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ- وَاعْتِبَارُ الْعَوَارِضِ هُنَا إِنَّمَا هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ حَلَالٌ فِي الْأَصْلِ، فَإِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ وَقَدْ عَارَضَهُ مَوَانِعُ فِي طَرِيقِهِ، فَفَقْدُ الْمَوَانِعِ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ كَاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ، وَإِذَا اعْتُبِرَتْ أَدَّى إِلَى ارْتِفَاعِ مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُكَمِّلٍ عَادَ عَلَى أَصْلِهِ بِالنَّقْضِ فَبَاطِلٌ؛ فَمَا نَحْنُ فِيهِ مِثْلُهُ‏.‏

الْقِسْمُ الثَّانِي‏:‏ أَنْ لَا يُضْطَرَّ إِلَيْهِ وَلَكِنْ يَلْحَقُهُ بِالتَّرْكِ حَرَجٌ، فَالنَّظَرُ يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَتَرْكَ اعْتِبَارِ الطَّوَارِئِ؛ إِذِ الْمَمْنُوعَاتُ قَدْ أُبِيحَتْ رَفْعًا لِلْحَرَجِ- كَمَا سَيَأْتِي لِابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ- وَكَمَا إِذَا كَثُرَتِ الْمَنَاكِرُ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ فِي الْحَاجَاتِ إِذَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّصَرُّفِ حَرَجًا بَيِّنًا، ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وَقَدْ أُبِيحَ الْمَمْنُوعُ رَفْعًا لِلْحَرَجِ كَالْقَرْضِ الَّذِي فِيهِ بَيْعٌ لِلْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ لَيْسَ يَدًا بِيَدٍ، وَإِبَاحَةِ الْعَرَايَا، وَجَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ النَّاسُ فِي عَوَارِضِ النِّكَاحِ، وَعَوَارِضِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ‏.‏

هَذَا وَإِنْ ظَهَرَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ الْخِلَافُ هَاهُنَا؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا فِيهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ فِي الْفُتْيَا بِمُقْتَضَى الِانْكِفَافِ وَاعْتِبَارِ الْعَوَارِضِ، فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا بَتُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْن‏:‏

إِمَّا أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِعَدَمِ الْحَرَجِ لِضَعْفِهِ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُ مِمَّا هُوَ مُعْتَادٌ فِي التَّكَالِيفِ، وَالْحَرَجُ الْمُعْتَادُ مِثْلُهُ فِي التَّكَالِيفِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ، وَإِلَّا لَزِمَ ارْتِفَاعُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ أَوْ أَكْثَرِهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيِ الْأَحْكَامِ‏.‏

وَإِمَّا أَنَّهُمْ عَمِلُوا وَأَفْتَوْا بِاعْتِبَارِ الِاصْطِلَاحِ الْوَاقِعِ فِي الرُّخَصِ، فَرَأَوْا أَنَّ كَوْنَ الْمُبَاحِ رُخْصَةً يَقْضِي بِرُجْحَانِ التَّرْكِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ لَمْ يَطْرُقْ فِي طَرِيقِهِ عَارِضٌ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذَا طَرَقَ الْعَارِضُ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَجَالِ أَيْضًا مَذْكُورٌ فِي قِسْمِ الرُّخَصِ‏.‏

وَرُبَّمَا اعْتَرَضَتْ فِي طَرِيقِ الْمُبَاحِ عَوَارِضُ يَقْضِي مَجْمُوعُهَا بِرُجْحَانِ اعْتِبَارِهَا، وَلِأَنَّ مَا يَلْحَقُ فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ أَعْظَمُ مِمَّا يَلْحَقُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ الْمُبَاحِ، وَإِنَّ الْحَرَجَ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْهُ فِي تَرْكِهِ، وَهَذَا أَيْضًا مَجَالُ اجْتِهَادٍ إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ‏:‏ هَلْ يُوَازِي الْحَرَجُ اللَّاحِقُ بِتَرْكِ الْأَصْلِ الْحَرَجَ اللَّاحِقَ بِمُلَابَسَةِ الْعَوَارِضِ أَمْ لَا‏؟‏، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ نَرْسُمُهَا الْآنَ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏سَبَبُ فِقْدَانِ الْعَوَارِضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْلِ‏]‏

فَنَقُولُ‏:‏ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فَقْدُ الْعَوَارِضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ بَابِ الْمُكَمِّلِ لَهُ فِي بَابِهِ أَوْ مِنْ بَابٍ آخَرَ هُوَ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا الثَّانِي‏:‏ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا أَوْ مُتَوَقَّعًا؛ فَإِنْ كَانَ مُتَوَقَّعًا فَلَا أَثَرَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ الْحَرَجَ بِالتَّرْكِ وَاقِعٌ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَمَفْسَدَةُ الْعَارِضِ مُتَوَقَّعَةٌ مُتَوَهَّمَةٌ فَلَا تُعَارِضُ الْوَاقِعَ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ وَاقِعًا فَهُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ تَكُونُ مَفْسَدَةُ الْعَوَارِضِ فِيهِ أَتَمَّ مِنْ مَفْسَدَةِ تَرْكِ الْمُبَاحِ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَالنَّظَرُ فِي هَذَا بَابُهُ بَابُ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ التَّعَارُضُ، وَلَا تَسَاوِي الْمَفْسَدَتَيْنِ، بَلْ مَفْسَدَةُ فَقْدِ الْأَصْلِ أَعْظَمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْمُكَمَّلَ مَعَ مُكَمِّلِهِ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِذَا كَانَ فَقْدُ الصِّفَةِ لَا يَعُودُ بِفَقْدِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، كَانَ جَانِبُ الْمَوْصُوفِ أَقْوَى فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَفِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، فَكَذَا مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْأَصْلَ مَعَ مُكَمِّلَاتِهِ كَالْكُلِّيِّ مَعَ الْجُزْئِيِّ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُلِّيَّ إِذَا عَارَضَهُ الْجُزْئِيُّ فَلَا أَثَرَ لِلْجُزْئِيِّ، فَكَذَلِكَ هُنَا لَا أَثَرَ لِمَفْسَدَةِ فَقْدِ الْمُكَمِّلِ فِي مُقَابَلَةِ وُجُودِ مَصْلَحَةِ الْمُكَمِّلِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ الْمُكَمِّلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَمِّلٌ إِنَّمَا هُوَ مُقَوٍّ لِأَصْلِ الْمَصْلَحَةِ وَمُؤَكِّدٌ لَهَا؛ فَفَوْتُهُ إِنَّمَا هُوَ فَوْتُ بَعْضِ الْمُكَمِّلَاتِ، مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْمَصْلَحَةِ بَاقٍ، وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ، كَمَا أَنَّ فَوْتَ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ لَا يُعَارِضُهُ بَقَاءُ مَصْلَحَةِ الْمُكَمِّلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ‏.‏

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ‏:‏ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ- وَهُوَ أَنْ لَا يُضْطَرَّ إِلَى أَصْلِ الْمُبَاحِ وَلَا يَلْحَقَ بِتَرْكِهِ حَرَجٌ-؛ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَفِيهِ تَدْخُلُ قَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الطَّاعَةِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الِاعْتِبَارِ، وَمِنْهُ مَا فِيهِ خِلَافٌ كَالذَّرَائِعِ فِي الْبُيُوعِ، وَأَشْبَاهِهَا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الذَّرَائِعِ أَيْضًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا قَاعِدَةُ تَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ شَهِيرٌ‏.‏

وَمَجَالُ النَّظَرِ فِي هَذَا الْقِسْمِ دَائِرٌ بَيْنَ طَرَفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِمَا؛ فَإِنَّ أَصْلَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى أَوِ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مُكَمِّلٌ لِمَا هُوَ عَوْنٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الذَّرَائِعِ، وَيُقَابِلُهُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ أَصْلُ الْإِذْنِ الَّذِي هُوَ مُكَمَّلٌ لَا مُكَمِّلٌ‏.‏

وَلِمَنْ يَقُولُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ أَنْ يَحْتَجَّ بِأَنَّ أَصْلَ الْإِذْنِ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى ضَرُورِيٍّ؛ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِبَاحَةِ- الَّتِي هِيَ تَخْيِيرٌ- حَقِيقَةٌ تُلْحَقُ بِالضَّرُورِيَّاتِ، وَهِيَ أُصُولُ الْمَصَالِحِ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْخَادِمِ لَهَا، إِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ إِيَّاهَا، فَاعْتِبَارُ الْمُعَارِضِ فِي الْمُبَاحِ اعْتِبَارٌ لِمُعَارِضِ الضَّرُورِيِّ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي التَّفْصِيلِ كَوْنُهُ ضَرُورِيًّا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ صَارَ جَانِبُ الْمُبَاحِ أَرْجَحَ مِنْ جَانِبِ مُعَارِضِهِ الَّذِي لَا يَكُونُ مِثْلَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الدَّلِيلِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ إِنْ فُرِضَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْأَصْلِ لِمُعَارِضِهِ الْمُكَمِّلِ، وَأُطْلِقَ هَذَا النَّظَرُ أَوْشَكَ أَنْ يُصَارَ فِيهِ إِلَى الْحَرَجِ الَّذِي رَفَعَهُ الشَّارِعُ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ؛ إِذْ عَوَارِضُ الْمُبَاحِ كَثِيرَةٌ، فَإِذَا اعْتُبِرَتْ فَرُبَّمَا ضَاقَ الْمَسْلَكُ، وَتَعَذَّرَ الْمَخْرَجُ، فَيُصَارُ إِلَى الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ‏.‏

وَلَمَّا كَانَ إِهْمَالُ الْأَصْلِ مِنَ الْإِبَاحَةِ هُوَ الْمُؤَدِّيَ إِلَى ذَلِكَ لَمْ يَسُغِ الْمَيْلُ إِلَيْهِ، وَلَا التَّعْرِيجُ عَلَيْهِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْأَصْلُ دَائِرًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِمَا، وَتَعَارَضَا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنِ الْمَيْلُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْآخَرِ، وَلَا دَلِيلَ فِي أَحَدِهِمَا إِلَّا وَيُعَارِضُهُ مِثْلُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَيَجِبُ الْوُقُوفُ إِذًا؛ إِلَّا أَنَّ لَنَا فَوْقَ ذَلِكَ أَصْلًا أَعَمَّ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ إِمَّا الْإِبَاحَةُ، وَإِمَّا الْعَفْوُ، وَكَلَاهُمَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ إِلَى مُقْتَضَى الْإِذْنِ فَكَانَ هُوَ الرَّاجِحَ‏.‏

وَلِمُرَجِّحِ جَانِبِ الْعَارِضِ أَنْ يَحْتَجَّ بِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ مُخَيَّرٌ فِي تَحْصِيلِهَا وَعَدَمِ تَحْصِيلِهَا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الضَّرُورِيَّاتِ، وَهِيَ كَذَلِكَ أَبَدًا لِأَنَّهَا مَتَى بَلَغَتْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ لَمْ تَبْقَ مُخَيَّرًا فِيهَا، وَقَدْ فُرِضَتْ كَذَلِكَ؛ هَذَا خَلْفُ‏.‏ وَإِذَا تَخَيَّرَ الْمُكَلَّفُ فِيهَا؛ فَذَلِكَ قَاضٍ بِعَدَمِ الْمَفْسَدَةِ فِي تَحْصِيلِهَا، وَجَانِبُ الْعَارِضِ يَقْضِي بِوُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ أَوْ تَوَقُّعِهَا، وَكِلَاهُمَا صَادٌّ عَنْ سَبِيلِ التَّخْيِيرِ فَلَا يَصِحُّ،- وَالْحَالَةُ هَذِهِ- أَنْ تَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى اعْتِبَارِ الْعَارِضِ الْمُعَارِضِ دُونَ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْمُتَشَابِهَاتِ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ التَّحْقِيقَ فِيهَا أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ؛ غَيْرَ أَنَّ تَوَقُّعَ مُجَاوَزَتِهَا إِلَى غَيْرِ الْإِبَاحَةِ هُوَ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ، فَنَهَى عَنْ مُلَابَسَتِهَا، وَهُوَ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ مَرْجُوعٌ إِلَيْهِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَيُنَافِي الرُّجُوعَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَالِاحْتِيَاطُ لِلدِّينِ ثَابِتٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ، مُخَصَّصٌ لِعُمُومِ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إِذَا ثَبَتَ؛ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَمَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْحَظْرِ، فَلَا نَظَرَ فِي اعْتِبَارِ الْعَوَارِضِ لِأَنَّهَا تَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا، فَجَانِبُهَا أَرْجَحُ‏.‏

وَمَنْ قَالَ‏:‏ الْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ أَوِ الْعَفْوُ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ بِاتِّفَاقٍ، بَلْ لَهُ مُخَصِّصَاتٌ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ لَا يُعَارِضَهُ طَارِئٌ وَلَا أَصْلٌ، وَلَيْسَتْ مَسْأَلَتُنَا بِمَفْقُودَةِ الْمُعَارِضِ، وَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ لِإِمْكَانِ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وَأَوْجُهُ الِاحْتِجَاجِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَثِيرَةٌ، وَالْقَصْدُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

‏[‏الْقِسْمُ الثَّانِي مَا يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ‏]‏

الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ، وَهُوَ يَنْحَصِرُ فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ، وَالصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، وَالْعَزَائِمِ وَالرُّخَصِ؛ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ، فَالْأَوَّلُ يُنْظَرُ فِيهِ فِي مَسَائِلَ‏:‏